لم تلتصق أمة من الأمم ببيئتها الطبيعية مثلما فعلت العرب الأوائل، فقد تفاعلوا إلى حد الانسجام والتناغم مع صخور بيئتهم وجبالها ووهادها وبحارها وأجوائها وأنوائها ونباتاتها وحيواناتها وطيورها ورياحها ومواسمها، فكان أن اشتقوا منها الأسماء ونحتوا الصفات وصاغوا التوصيفات شعرا ونثرا وتمثلا ونحو ذلك، وبقليل من التمعن نجد أن العرب قد وصفوا حركاتهم وسكناتهم وأحوالهم وأمكنتهم وأزمنتهم بلغة ايكولوجية/ انسانية مشتركة: فأسنت عليه على سبيل المثال بمعنى اصابته السنة بالفقر والعوز.. وأقحط من القحط مناخيا.. مثلها مثل أيبس من الجفاف واحتباس المطر، كما أن أشمل القوم صاروا في ريح الشمال وأدبروا بمعنى تلقفتهم الرياح من الخلف، وأصاف وأربع واشتى وأخرف القوم أي صاروا في هذه الأزمنة.. وأرعد القوم وأبرق وأمطر كناية عما يحدث في أجوائهم من الرعد والبرق والمطر ومن دلالات ذلك تأصل علاقتهم لا بالأرض فحسب بل أيضا بالأجواء والأنواء مما يؤكد بالفعل تكاملية وشمولية هذه العلاقة.
ومن الأدلة على عمق علاقة العرب الأوائل ببيئتهم ما درجوا عليه من تحوير معاني الكلمات البيئية ذات المضامين السلبية أو الخطرة إلى ضدها الإيجابي: ومنها تمثيلا لا حصرا كلمة (الوهم) حيث اعتادت العرب استخدام هذه الكلمة (بيئيا) بمعنى الطريق الواضح ولعل ذلك من قبيل الكناية التفاؤلية مثل إطلاقهم كلمة مفازة على الصحراء الجرداء الخطرة كناية عن التفاؤل بعبورها والفوز بالسلامة منها، وقد قال عن الوهم شاعرهم:
تضمّنها وهمٌ ركوبٌ كأنه
إذا ضمٌ جنبيه المخارم رزدقُ
|
اشارة إلي سير الناقة حين يتضمنها الوهم أو والطريق واضح المعالم بفعل كثرة عابريه غدوا ورواحا.
ويزداد شأن علاقة العربي القديم ببيئته شأناً وشأوا باستقراء التطور اللغوي لمعنى (المسافة) في اللغة العربية، فالمسافة أصلها من (السُوف وهو الشم) وذلك حين يلجأ الدليل في الصحراء إلى أخذ حفنة من التراب ليشمها وذلك لغرض تبين أمر اتجاهه، فمن خلال شم التراب بمقدور هذا الدليل معرفة ما اذا كان قد أخطأ الطريق أم لا وذلك من رائحة البشر والحيوانات والأشجار والحشائش ونحو ذلك، وبإطراد استخدام المسافة انطلاقا من حاسة الشم أخذت العرب تطلق على البعد (مسافة) كما تؤكد ذلك المصادر التراثية، ومن أدلة ذلك قول شاعرهم: (اذا الدليل استاف اخلاق الطرق...) واستاف هنا بمعنى شم. كما أنه عن طريق حاسة الشم هذه أجادت العرب حرفة ما يعرف ب«الريافة» وتلك هي معرفة أي بقاع الأرض تحوي على أكبر كمية من المخزون المائي وذلك عن طريق شم ترابها.
وكما أن للإنسان وجهاَ وخداً وظهراً وصدراً ومناكب وعيوناً.. فللأرض في أقوال العرب مثل ذلك أيضا، فلا غرو أن حاكى العرب ما يحدث في السماء توصيفا لما يحدث على الأرض ومن ذلك أنهم شبهوا تفرقهم مثلا بإنقشاع السحاب من فوقهم كقولهم: أقشع السحاب وأقشع القوم بمعنى تفرقوا، بل إن توصيف دماثة الأخلاق في قاموسم اللغوي/ القيمي ليس إلا اشتقاقا من دماثة أرضهم حيث اعتادت العرب اطلاق وصف الدماث على الأرض السهلة اللينة وذلك كما في قول شاعرهم في وصف قعوده:
فلما أتى عامان بعد انفصاله
عن الضرع واحلولى دماثا يرودها
|
وقوله هنا «احلولى دماثا يرودها» بمعنى استحلى أرضا دمثة لينة سهلة ليسلكها...
هذا هو ما كان من أمر العرب المتقدمين بيئيا.. فما الذي يا ترى حدث لمتأخريهم..؟! اقصد ما الذي أدى بهم إلى تهلكة الانفصال عن بيئتهم إلى درجة أخلت بها وأضرت بهم؟.. لا أدري غير أن السؤال هو منذا الذي لايدري عن حقيقة أن الانفصال هذا هو سبب كل اختلال واعتلال..
|