* حل موعد اليوم الوطني للمملكة هذا العام، وهناك في الأفق على ما يبدو أكثر من مشروع وطني جديد، وذلك من أجل إعادة بناء الثقة بالنفس من جديد، وتعديل المسار الثقافي في اتجاه سليم، ورتق الشقوق المفتعلة في المشهد الاجتماعي العام، إلى غير ذلك مما تتطلبه المرحلة التي تعيشها البلاد، مع انطلاقة القرن الميلادي الثالث.
* من هذه المشاريع الوطنية المستحقة لهذا الوطن، (المشروع الوطني الثقافي للكتاب)، الذي وافق عليه المقام السامي مؤخراً، واختيرت (مكتبة الملك عبدالعزيز العامة) بالرياض، مقراً لأمانته، ومنطلقاً لبرامجه وأشغاله، بمشاركة مكتبة الملك فهد الوطنية، ووزارات (التربية والتعليم التعليم العالي الثقافة والإعلام).
* لقد رأى المخططون لهذا المشروع الوطني الحيوي، أن (ثمة عزوفاً عن القراءة، وضعفاً في اكتساب مهاراتها، قياساً بأهمية القراءة، ودورها في تقدم الأمم ورقيها، فهي من أهم الأدوات المكملة للجهود الرامية، إلى التعليم المستمر، ورفع المستويات الحضارية، لزيادة المعرفة، والمهارات المهنية المختلفة، ولدفع الناس نحو تحقيق حياة أكثر نشاطاً وابتكاراً، فترشيد القراءة وتنظيمها على مستوى الأمة، يهدف أساساً إلى الاستخدام الأمثل والأكمل للكتب، باعتبارها، من أقوى وسائل التأثير على عقول الناس).
* هذا في الحقيقة، تأطير جيد للب المشكلة، التي من أجلها شُرع مثل هذا المشروع، ومثله ما جاء من أهداف تقول:
(نشر الوعي بأهمية القراءة تكوين الاتجاهات الإيجابية لدى الناشئة نشر ثقافة القراءة بث روح التنافس في القراءة بين الطلاب والطالبات توفير الكتب المناسبة دعم برامج المؤسسات الاجتماعية والثقافية والتعليمية في مجال القراءة والكتاب تهيئة المجتمع لمواجهة تحديات المستقبل إعداد جيل سعودي يحافظ على تراثه وهويته، متسلحاً بالعلم والمعرفة).
* عندما تلقيت نسخة من وثيقة تأسيس هذا المشروع الثقافي الجيد، شعرت بارتياح كبير، لأني أعتقد منذ سنوات مضت، أن (عادة) القراءة في مجتمعنا في أزمة، وأن الكتاب الجاد النافع، أخذ يتوارى وراء كماليات وبهرجات عصرية تافهة، وأن الناس أصبحوا مشدودين إلى ما يصلهم من الفضاء، فانشغلوا به عما بين أيديهم من واقع مفيد، ومنه الكتاب، والشواهد على هذا كثيرة. لقد كُلِّفت قبل عدة سنوات مضت، بأمانة أربع مكتبات مدرسية، في الأولى، لم أجد مكتبة تذكر، رغم أن عمر المدرسة (كان) يتجاوز العشرين عاماً! وإنما وجدت كتباً بالآلاف في كراتين داخل مراحيض وطرقات مهجورة..! ووجدت في الثانية، وعمرها (كان) يربو على الستين عاماً، آلاف الكتب في أكياسها من يوم إرسالها من الوزارة لم تفتح..! وهي مشتتة بين غرف في السطوح، ودورات مياه ومطابخ..!
ومكثت أكثر من عشر سنين بين أربع مدارس، أبني وأنظم وأفهرس مكتبات من الصفر، ولكن المفاجأة المرة، أن لا أحد من المعلمين يرغب في دخول المكتبة، ولا حتى التعرف على محتوياتها من الكتب، ولا تعويد طلابه على زيارتها، وفهمت حينئذ، لماذا ظلت الكتب في دورات المياه طيلة عشرات السنين، لا يعرف الطريق إليها، إلا الفئران والصراصير والعثة..!
* هذه صورة من صور الأزمة التي يعيشها الكتاب في المجتمع، فإذا كان الذين يوصفون بأنهم من طبقة المتعلمين، ولهم صلة يومية بالكتاب، يهجرونه ويغربونه بينهم، فماذا نرجو من الآخرين البعيدين عن جو التعليم، ومصادر التعلم..؟!
* إن المتغيرات العصرية، والمخترعات العلمية، وتعدد الوسائط الثقافية، من أسباب الأزمة التي عنيت، لكن وفرة الكتاب بالشكل الذي أصبح لا يثير الانتباه، هي في اعتقادي سبب كذلك، وقد يكون مهماً، لأن الوفرة تقود إلى التخمة، ويوم أن كان الكتاب مخطوطاً، كان الناس يرتحلون إلى بلدانه لنسخه وتوطينه بينهم، وعندما أصبح مطبوعاً بشكل محدود، كان الناس يتداولونه بينهم بالإعارة، ويجتمعون على مطالعته وتلخيصه ونقده. أما اليوم، فالكتاب في كل مكان، حتى انه يباع على الأرصفة، فلا يثير الدهشة، وعندما يدخل بعض الدور، فإنما للزينة والتفاخر، ووجد في عصرنا، ما يسمى كتاب الصالون، وهو صندوق مقلد لكتاب فارغ يوضع للزينة..؟!
* إن جميع الأديان، توجب القراءة وتحض عليها، والتعاليم السماوية جاءت في كتب مقدسة، وأول تكليف تلقاه نبي الهدى عليه صلوات الله وسلامه، من رب العالمين، هو (القراءة). وأول كلمة تلقاها في رسالته هي (اقرأ)، فكانت نقطة البدء والانطلاق، في اتجاه كل عمل عظيم، وغرض جليل في هذا الكون.
* لو لم يكن الكتاب ولم تكن القراءة، لما تقدم هذا الكون قيد أنملة، ولما تطورت المعارف الإنسانية، ولما نمت الحضارة البشرية وازدهرت قط.
* قيل لسقراط: كيف تحكم على إنسان..؟ قال: أسأله كم كتاباً يقرأ..؟ وماذا يقرأ..؟!
* إذن.. قل لي كم تقرأ، وماذا تقرأ.. أقل لك من أنت..!
* لقد أدرك الفلاسفة والحكماء، القيمة الأخلاقية والحضارية للكتاب في المجتمع، فنبهوا إليها بكل وضوح، فالألمان يقولون: (لا ينمو الجسد إلا بالطعام والرياضة، ولا ينمو العقل إلا بالمطالعة والتفكير)، ويقول (كارليلي): إن مجموعة نفيسة من الكتب، لمدرسة جامعة. ويقول (هنري تورو): الكتب ثروة العالم المخزونة، والإرث المناسب للأجيال والأمم. ويقول (فنسنت سفاريت): عندما نجمع الكتب، فإننا نجمع السعادة. ويقول (شيشرون): بيت بلا كتب، كجسد بلا حياة. ثم يقول (روزفلت): الكتاب هو النور الذي يرشد إلى الحضارة.
* والعجم لم يكونوا استثناءً في احتفائهم بالكتاب، وتقدير قيمة القراءة في حياتهم العامة، لقد كان العرب كذلك منذ قرون، يوم كانوا ينقشون على الصخور، ويكتبون على الأوراق والجلود ثم الورق بعد ذلك، فقد قال واحد من عباقرتهم الوراقين، وهو (أبو عمرو الجاحظ): إني لا أعلم شجرة أطول عمراً، ولا أطيب ثمراً، ولا أقرب مجتنى من الكتاب، الكتاب نعم الجليس والعدة، ونعم النشرة والنزهة، ونعم الأنيس ساعة الوحدة، ونعم المعرفة ببلاد الغربة، ينطق عن الموتى، ويترجم عن الأحياء، لا ينام إلا بنومك، ولا ينطق إلا بما تهوى، آمن من الأرض، وأكتم للسر من صاحب السر. وفي مثل هذا قال الشاعر:
أوفى صديق إن خلوت كتاب
ألهو به إن خانني أصحابي
لا مفشياً سراً إذا أودعته
وأفوز منه بحكمة وصواب
|
* وقال كذلك (ابن حمدون): وجدت الكتاب خير صاحب وقرين، وأفضل رفيق وخدين، لا يخون ولا يمين، ولا يماكر ولا يناكر، ولا يعصي ولا ينافر.
* لقد اعتنى العرب بالمكتبات العامة، فكانت من أعلام حضارتهم التي برزت في بغداد ودمشق والأندلس، وفي غيرها من البلدان، وكان نقش على مكتبة الاسكندرية يقول: (المكتبة هي مستشفى الفكر).
* ومن مدرسة الكتاب، أبدع الكُتَّاب وظهر العلماء، وبرز الفقهاء، وعلا الفضلاء، وارتقى الفكر الإنساني، وأنتج ما تنعم به البشرية اليوم من مخترعات علمية، تصب في مصلحة الحياة ورغدها ورخائها. فلا غرو إذن، أن يمجد أمثال هؤلاء هذه المدرسة الفكرية العظيمة. يقول عباس محمود العقاد: أحب الكتب، لأن حياة واحدة لا تكفيني..!
ويقول حسن اللؤلؤي: ما بت ليلة، إلا والكتاب على صدري. ويقول ابن طباطبا: الكتب حصون العقلاء التي يلجئون إليها، وبساتينهم التي يتنزهون فيها.
* إن تنمية عادة القراءة في النشء، هي السبيل الوحيد لتوطيد العلاقة الدائمة مع الكتاب، ومن ثم.. المقدرة على التأثير في الأفكار العامة، وتصويب المفاهيم المكونة لثقافة سليمة.
* عندما تصبح المكتبة في دورنا، ضرورة مثل ضرورة الطاولة والكرسي والسرير والمطبخ.. عند ذاك، يحق لنا أن نقول: نحن أمة متحضرة.
قال الأب (طانيوس منعم): إشفاقي على بيت بلا مكتبة، إشفاقي عليه بلا أركان، ولا أعمدة، وإن استوى في مرأى العين، خَوَرْنَقاً وسَدِيراً.
* أود أن أختم هنا، بما رأيت أنه كان ينبغي أن يكون من صلب أهداف (المشروع الثقافي الوطني للكتاب)، وهو تقديم الدعم المادي للباحثين والمبدعين والمخترعين، بالطريقة التي تسهل وتيسر حضور (الكتاب الجيد)، في متناول المتلقي، بأسعار رمزية، إلى جانب (تخصيص) الكتاب المقصود بالمشروع، فالكتاب مطلقاً لفظة عامة، وهناك اليوم من الكتب، ما هو مقروء أو مسموع أو مرئي، ومنها ما هو جيد وغير جيد، ومنها ما يخدم وما يهدم..
فما هو الكتاب الذي نستهدفه من هذا المشروع الوطني..؟!
* قال الأديب الكبير عباس محمود العقاد ذات يوم: الكتب كالناس، منهم السيد الوقور، ومنهم الكيِّس الطريف، ومنهم الجميل الرائع، والساذج الصادق، ومنهم الخائن والجاهل، والوضيع والخليع، والدنيا تتسع لكل هؤلاء.
* ولأن الدنيا تتسع للجميع، فماذا نختار لأنفسنا من بين الجميع..؟
fax: 027361552
|