ألف مليون دولار، وأكثر من عشرة قتلى، وعدد أكبر من الجرحى، كل أسبوع، هي حصيلة تكاليف بقاء القوات الأمريكية في العراق كما تقول التقارير. هذه التكاليف على مستوى الخسارة البشرية، أو على مستوى الخسارة المادية، مرشحة للتصاعد مع مرور الوقت. وفي رأيي ليس هناك على سطح الأرض من يريد الخروج من العراق اليوم قبل غدٍ كالرئيس الأمريكي بوش، لا سيما وهو مقبل على معركة رئاسية، وكل مؤشرات استطلاعات الرأي تؤكد أن شعبيته بسبب المستنقع العراقي في تراجع مستمر. ولعل لجوءه مؤخراً إلى «الأمم المتحدة» بعد أن ساهمَ في إضعافها قبلَ الحرب، يُجسد هذا المأزق.
غير أن ذلك كله لا يعني أن الأمريكيين على استعداد للتراجع عن مشروعهم في العراق. فقرار الحرب ليسَ قرار الرئيس منفرداً، ولا حتى قرار مستشاريه المقربين منه، بقدر ما هو قرار مؤسساتي نبعَ وتشكل داخل أروقة المؤسسة الأمريكية الحاكمة بكل تشعباتها وتداخلاتها وتعقيداتها، وأتى ليصيب في مصلحة ما يُسمى بالنظام العالمي الجديد، الذي هو «استراتيجيتهم» الجديدة بعد انتهاء الحرب الباردة. لذلك حتى لو افترضنا سقوط الرئيس بوش في الانتخابات المقبلة لصالح المرشح الديمقراطي الذي لم يتضح بعد من يكون على وجه التحديد، فليسَ في وسع الرئيس الجديد، التراجع والانسحاب، كما يحلمُ بعض العرب، وكذلك بعض المحللين. كل ما هنالك أنه سيحاولُ تقليل الخسائر المادية والإنسانية، وحصرها في أقل ما يُمكن، دون أن يتراجع عما تحقق على أرض الواقع، تماماً كما يعمل الرئيس جورج بوش الآن.
ومن الخطأ المفضي إلى نتائج تضليلية قياس «مقاومة» العراقيين للقوات المتحالفة بمقاومة الفيتناميين إبان حربهم مع أمريكا. آنذاك، كانت الحرب الباردة في أوج تفاعلها، وكان السوفييت وكذلك الصينيون يدعمون الفيتناميين سياسياً وبالمعلومات والعتاد والتقنية العسكرية، الأمر الذي جعل من حرب فيتنام حرباً بين قطبي القوة العظمى آنذاك، لم يكن الفيتناميون فيها سوى أداة للمعسكرالشرقي المناوئ للأمريكيين. أما في العراق فالأمر يختلف تماماً، المقاومة العراقية تعملُ بعيداً عن أي دعم، وتعتمدُ على جهود ذاتية متواضعة، ولا يُمكنُ والحالُ كذلك أن تصلَ إلى مستوى مقاومة الفيتناميين. إضافة إلى أن هناك أغلبية عراقية كما تقول استطلاعات رأي العراقيين يرفضون الانسحاب الأمريكي، ويصرون على بقاء قوات التحالف حتى يتم تسليم السلطات إلى حكومة عراقية منتخبة. الأمر الآخر والمهم ينطلقُ من أن الأمريكيين يعلمون علم اليقين أن تراجعهم عن مواصلة مشوارهم السياسي في العراق، وانسحابهم منه، هو بكل المقاييس هزيمة لهم، ولمشروعهم الاستراتيجي الذي أعقبَ سقوط الاتحاد السوفييتي والذي يقوم على تحويل العالم إلى «إمبراطورية» أمريكية تحت مسمى النظام العالمي الجديد. وفي تقديري أن «الأمريكيين» في سبيل إحكام سيطرتهم على العالم، وفرض نظامهم الجديد، مستعدون للذهاب أبعد، وتحمل خسائر أكبر، إذا ما وجدوا أنفسهم مضطرين لتحمل هذه الخسائر. كلُ ما أريد أن أقوله في هذه العجالة أن التعويل على ما يُسمى بالمقاومة العراقية لقلب المعادلة السياسية العراقية التي أعقبت سقوط نظام صدام حسين، كما تتمنى بعض الأنظمة كالنظام الإيراني مثلاً، إضافة إلى بعض المحللين العرب هو تعويلٌ لا تدعمه الموضوعية ولا التاريخ ولا المنطق ولا عوامل القوة على أرض الواقع. فأغلب العراقيين يدعمون بقاء قوات التحالف، إضافة إلى أن هذه القضية بالنسبة للأمريكيين لا تتوقف عند العراق، بقدر ما يعتبرُ نجاحها أو فشلها له صلة مباشرة بنجاح أو فشل الإستراتيجية الأمريكية الجديدة في كل أنحاء العالم، وفي رأيي لن يقبلَ الأمريكيون بالتنازل عن استراتيجيتهم الجديدة مهما كانت التضحيات.
|