هذا الحديث المشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لَيَأْتيَنَّ عَلَى أُمَّتِي مَا أَتَى عَلَى بَنِي إِسْرَائيلَ حَذْوَ النَّعْلِ بالنَّعْلِ حَتَّى إِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ أَتَى أُمَّهُ عَلاَنِيَةً، لَكَانَ في أُمَّتي مَنْ يَصْنَعُ ذَلكَ، وَإِنَّ بَنِي إِسْرَائيلَ تَفَرَّقَتْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً كُلُّهُمْ في النَّارِ إلاَّ مِلَّةً وَاحِدَةً قَالُوا وَمَنْ هي يَا رَسُولَ اللَّه؟ قَالَ: مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابي» ومدار كلام الأكثرين على هذا الحديث، بل لايكاد يتكلم أحد في الخلاف إلا وذكره، وربما بالغ البعض وأكثروا من روايته وسياقه عند العوام وغيرهم، ممن لايحيطون بهذا الحديث علماً ولا يدركون أبعاده، ولذلك أحببت أن ألقي الضوء على هذا الحديث:
- هذا الحديث لم يخرجه صاحبا الصحيح: البخاري ومسلم؛ وهذا بطبيعة الحال لايعني عدم صحته، لكنَّ عدم تخريجهم له -واللّه أعلم- ربما لأنه يتقاصر عن شرطهم فيما يخرجونه من الأحاديث.
- الحديث رواه أحمد وأهل السنن من طرق، ومن العلماء من صححه أو حسنه كالترمذي، والحاكم، والذهبي، وابن تيمية، والشاطبي، وابن حجر وغيرهم، ومنهم من ضعفه كابن حزم وابن الوزير وغيرهم، ومذهب الأكثرين في ثبوت الحديث أقوى؛ فإن الحديث بمجموع طرقه ثابت، لكن لايجب أن ينظر إليه وكأنه لم يرد في باب الاختلاف غيره.
1- لدينا قول النبي صلى الله عليه وسلم « أُمَّتي هَذه أُمَّةً مَرْحُومَةٌ لَيْسَ عَلَيْهَا عَذَابٌ في الآخِرَةِ عَذَابُهَا في الدُّنْيَا الفِتَنُ والزَّلازلُ وَالْقَتْلُ» وهذا حديث صحيح رواه أحمد وأبو داود والحاكم، عن أبي موسى وهو صحيح الاسناد؛ فهذا الحديث فيه إشارة إلى رحمة هذه الأمة، وأنه ليس عليها في الآخرة عذاب، وإنما عذابها في الدنيا.
* وقال سبحانه: {وّكّذّلٌكّ جّعّلًنّاكٍمً أٍمَّةْ وّسّطْا} *البقرة: (143) والنصوص النبوية في ذلك متواترة مقطوع بها؛ فهذه الأمة هي أفضل الأمم، وينبغي ألا يفهم من الحديث أن الأمم السابقة أقل اختلافاً من هذه الأمة، وبالتالي هي أفضل أو أقل شراً.
3- في الصحيحين، عن ابن مسعود رضي الله عنه قَالَ كُنَّا مَعَ النبي - صلى الله عليه وسلم- في قبة فقال: «أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّة؟». قُلْنَا: نَعَمْ. قَالَ: «تَرََْضوْنَ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ! أَهْلِ الْجَنَّةِ؟». قُلْنَا: نَعَمْ. قَالَ: (أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّة؟). قُلْنَا: نَعَمْ. قَالَ: «وَالذي نَفْسُ مُحَمَّد بيَدِهِ إنّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَذَلكَ أَنْ الْجَنَّةَ لاَ يَدْخُلُهَا إلاَّ نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ، وَمَا أَنْتُمْ في أَهْلِ الشِّرْكِ إلا كالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ في جِلْدِ الثّوْرِ الأَسْوَدِ أَوْ كَالشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ في جِلْدِ الثّورِ الأَحْمَرِ» وبذلك حكم النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة؛ أن نصف من يدخلون الجنة هم من أتباعه عليه الصلاة والسلام.
* وفي الحديث الصحيح: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» وهذا المعنى أيضاً في الجملة معنى مقطوع به متداول عند الفقهاء والأصوليين.
وقد استشكل جمع من أهل العلم كثرة الفرق في هذه الأمة، كما هو مذكور في الحديث ويمكن أن يُجاب عن ذلك بأجوبة منها:
طول عمر هذه الأمة وامتدادها كما هو معروف.
أن تفرقها أهون شراً من تفرق غيرها من الأمم قبلها، وهو مُقابل بألوان من الخير والفضل تقابل النقص الحاصل به، والفرقة لايلزم أن تكون كثيرة العدد، فلو أن اثنين افترقا لاعتبر فرقة إذاً قد تكون ثلاث وسبعين فرقة، ومع ذلك لا تشمل إلا قسماً محدوداً من الأمة.
إنما الإشكال الحقيقي لدى من يجعل نفسه الفرقة الناجية، ثم يصمُ الآخرين بالضلال ويتوعدهم بالنار، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِذَا قَالَ الرَّجُلُ هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ». يعني: أشدهم هلاكاً، وفي رواية (أَهْلَكَهُمْ) أي تسبب في هلاكهم.
هؤلاء الذين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم مختلفون؛ الفرق الثنتان والسبعون النبي صلى الله عليه وسلم أخبر: أنهم من أمته، و(ستفترق هذه الأمة) و(ستفترق أمتي)، إذاً هم ليسوا بكفار ولا مشركين، لكنهم مسلمون مؤمنون، وقد يكون فيهم المنافق، وقد يكون فيهم الكافر، لكن فيهم كثير كثير من هذه الأمة من أهل الإيمان والإسلام، وإن كان عندهم نوع من الاختلاف ونوع من التقصير، وهذا رجحه أهل العلم كابن تيمية والشاطبي وغيرهم.
* وقوله سبحانه: {وّمّن يّفًعّلً ذّلٌكّ عٍدًوّانْا وّظٍلًمْا فّسّوًفّ نٍصًلٌيهٌ نّّارْا} النساء:( 30) ومع ذلك لا نشهد لمعين بالنار؛ لإمكان أنه تاب من ذنبه، أو كان له حسنات محت سيئاته، أو كفر الله عنه بمصائب وغير ذلك.
ولم يكن من شأن السلف رضي الله عنهم الاشتغال بتعيين هذه الطوائف.
* فإنه يقصد كل من سبقه من قرون الأمة بالإيمان، وإن كان قد أخطأ في تأويل تأوله فخالف السنة، أو أذنب ذنباً؛ فإنه من اخوانه الذين سبقوه بالإيمان؛ فيدخل في العموم، وإن كان من الثنتين والسبعين فرقة؛ فإنه ما من فرقة إلا وفيها خلق كثير ليسوا كفاراً بل مؤمنون فيهم ضلال وذنب يستحقون به الوعيد.
ثم يقول -رحمه الله- مع أن حديث الثنتين والسبعين فرقة ليس في الصحيحين؛ فقد ضعفه ابن حزم وغيره، لكن حسنه غيره أو صححه كما صححه الحاكم، وقد رواه أهل السنن من طرق.
وبذلك يتبين أيها الأخ الحبيب! أن مثل هذا الحديث ينبغي أن يوضع في إطاره الصحيح، وإن كان ثابتاً عندنا إلا أنه ينبغي ألا يُتعدى به قدره، وألا يكون سبباً لإشاعة الفرقة والخلاف بين المؤمنين.
وقد وقفت على بحث قيم للاستاذ عبدالله بن يوسف الجديع عنوانه: «أضواء على حديث افتراق الأمة» أنصح بقراءته.
وفقنا الله وإياكم لصالح القول والعمل وجمع قلوبنا على الإيمان والتقوى، وهدانا جميعاً إلى سواء السبيل، وجمع أمة المسلمين على الخير والهدى، ووحد كلمتهم وصفهم، إنه جواد كريم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
|