عندما خاطب الجنرال غورو الفرنسي صلاح الدين في قبره في دمشق قائلا: «قم يا صلاح الدين، ها نحن قد عدنا»، كان في واقع الأمر يعلن انتهاء قرون من هيمنة مشاعر الهزيمة على أوروبا المسيحية، ويبحث عن خلاص من تلك الذكرى الثقيلة التي انتهت بانسحاب جيوشهم وأسر قوادهم، والتي خلفت عميق الأثر في تعاملهم مع العرب والإسلام والمسلمين، وقد عَبَّر عن ذلك صراحة أحد قادتها بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، إذ قال اللورد اللمبي حين دخل القدس محتلاً عام 1917م: «اليوم فقط انتهت الحروب الصليبية»، لتجتاح مشاعر الهزيمة والضعف الشرق العربي والمسلم، وتعيد كلمات «غورو» لأمة العرب غريزة الهوس المجنون في البحث عن الرمز «صلاح» من جديد،.. الرمز القادر على إعادة الكرامة للعرب، وطرد الغزاة من وطنهم المحتل..
فقد دأبنا في ليل ما قبل 11 سبتمبر أن نحلم أيقاظاً ونياماً، وننتظر لهفاً وشوقاً خروج ذلك الفارس العربي الملثم من أزمنة الماضي الخالد.. متوشحاً بسيف خالد، ومتربصاً بدهاء عمرو، ومتسلحاً بشجاعة علي، ينتشلنا من خزي الهزيمة، ومن ضآلة القدرة على المواجهة، فقد أرهق أرواحنا طول الانتظار، وأضحينا بسببه سجناء في ذهنية الهزيمة،.. ندعو الله سبحانه وتعالى أن يرسل للأمة «فارساً» من طراز صلاح الدين، يفرق شمل العدو الجاثم على صدورنا، ويفرّج أزمتنا، ويفك كربنا، ويصلح أحوالنا العسكرية والاقتصادية، ويقضي على كارثة التخلف وينهي أزمة الأمية، ولم يفارقنا ذلك الشعور بالرغبة في الرد على المعتدي، والخروج من عار الهزيمة في أي حال كانت، فكنّا شوقاً له إذا حانت ساعة الترويح عن النفوس ننشد: (أوقد النا يا شبّابها وصمة العار ما نرضى بها)،.. ونردد: (اخي جاوز الظالمون المدى)..كان هذا الخطاب لا يزال أمضى أسلحتنا وأكثرها تأثيرا.. لذا اعتاد الشعراء الخروج مجازاً على قوى الواقع، ودفع الأمة إلى المواجهة.. فقد ولد مظفر النواب في صحراء التيه، لا يعترف بالسلطة، وأصبح أحمد مطر الشيعي أحد أسلحة الصحوة السنية .. وظلت قبائل العرب وأطيافها تبحث عن صلاح منذ الصغر، وتفتش عنه في فصول الأحداث منذ أحيا ذكراه في حياتنا الفرنسي غورو، فتارة نرصد أخباره من «صوت العرب»، وتارة أخرى نبحث عنها في بيانات بغداد، ولكن كلما علا صوت من هذا المنبر أو ذاك، انكشف زيفه.. الذي صوّره أمل دنقل شعراً
(ونحن - جيلاً بعد جيل - في ميادين المراهنة
نموت تحت الأحصنة
وأنت في المذياع
في جرائد التهوين تستوقف الفارين تخطب فيهم صائحاً حطين
وترتدي العقال تارةً
وترتدي ملابس الفدائيين وتشرب الشاي مع الجنود في المعسكرات الخشنة
وترفع الراية حتى تسترد المدن المرتهنة
وتطلق النار على جوادك المسكين حتى سقطت - أيها الزعيم
واغتالتك أيدي الكهنة..)
وخرج نزار قباني من عباءة الرمز «صلاح» متأخراً، بعد أن خاض المعارك خلف راية «الزعيم» الخالد، متسلحاً بسيوف الشعر العربية، يحرض.. ويذود بقصائد عن مرابع العروبة، ويندب حالنا المريضة، بعد أن اغتالت أمة العرب صلاحها «المزعوم»:
وراح بعدها لزمن يبشر بقرب إعلان وفاة العرب:
(أنا منذ خمسينَ عاماً
أحاولُ رسمَ بلادٍ تُسمى - مجازا - بلادَ العرب رسمتُ بلون الشرايين حيناً
وحيناً رسمت بلون الغضبْ
وحين انتهى الرسمُ، ساءلتُ نفسي إذا أعلنوا ذاتَ يومٍ وفاةَ العربْ ففي أي مقبرةِ يُدْفنونْ؟ ومنْ سوف يبكي عليهم؟ وليس لديهم بناتٌ
وليس لديهم بنونْ ، وليس هنالك حُزْنٌ، وليس هنالك من يحْزنونْ)...
في يوم آخر في رحلة الانتظار لمولد الزعيم المنتظر، وبالتحديد في نهار التاسع والعشرين من أغسطس عام 2001، وقبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر بثلاث عشرة ليلة بالتمام، اعتلى الشاعر غازي القصيبي.. فرس نزار، وهتف ينادي روحه في قبره الدمشقي، ويزف له الخبر، ويخبره بوفاة العرب:
نزارُ! أزفُّ إليكَ الخبرْ لقد أعلنوها
وفاةَ العَرَبْ
وقد نشروا النعْي
فوق السطورِ
وبين السطورِ
وتحت السطورِ
فمعتصمُ اليوم باعِ السيوفَ لِبيريز
عادَ وأعلنَ أن السلامَ الشُجاع انتصرْ
وجيشُ «ابن أيوبَ مُرتهنٌ في بنوكِ رُعاةِ البقَرْ
وبعد أيام من انتهاء مراسم الدفن وانقضاء أيام الحداد على وفاة العرب... حدثت الفاجعة، وانفجرت الأمة رفضاً وكرهاً وتفرقاً وتمزقاً، (لنا الصدر دون العالمين أو القبر)، انتفض الواقع العربي بعد أن أعلن الشعراء وفاته،.. لم تكن حالة هستيريا التمرد، والعنف والغضب، الانتقام إلا استجابة لنداءات شعراء العرب، وخطب وعاظهم الذين حملوا رايات تحريض أمة مصابة بداء التخلف، ومعاقة بطبائع الاستبداد لمقاومة المعتدين، ودحض العدوان، والانتقام، ورد اعتبار الهزيمة...أعلن الشعراء وفاة العرب لا لسبب، إلا لأنهم فشلوا في إعادة صلاح من جديد، فكان الحادي عشر من سبتمبر، وكانت المفاجأة، فقد خرج الرمز الذي بحثوا عنه طويلاً، خرج ممتطياً طائرة البوينج، ومفجراً ساعة الانتظار ومبدداً واقع الصمت في جسد العروبة الذي أعلنوا وفاته قبل الحادي عشر من سبتمبر بأيام فقط.. لقد أخرجت تلك الفاجعة الحالمين من سبات الأمنية إلى مواجهة لهيب الواقع، واستبدل هولها مشاعر الشوق والحنين لأطلال الماضي التليد، إلى كوابيس الخوف من زوال مكتسبات الحاضر.. حدث ما أراده شعراء العرب، وبدلاً من أن يحتفوا به، تواروا تماماً من مشاهد الحدث، وراحوا يحرقون قصائدهم القديمة، ويعضون أصابع الندم، ويهربون من قوانين الإرهاب الدولية، ومن تهمة الانتماء للأمة العربية...
إنها أزمة «الرمز والتبعية»، التي تكرسها ظاهرة الشعر في تاريخ العرب، حاضر بائس، وواقع مخيب للآمال،.. وما أشبه الليلة بالبارحة.. دورات من تاريخ متكرر، تعود ونحن نراوح في أزمنتنا القديمة...، فقد عاش العرب عقوداً من الدهر على أمل أن يخرج ذلك الفارس لكي يهزم الغزاة، ويعيد الكرامة المفقودة، عاشوا مشاعر ذلك الأمل بين سطور قصائد شعرائهم الغاضبين، وفي مقدمات أساطيرهم العربية، وفي أوهام قدراتهم الخرافية، وظلت أصواتنا صدى لشعارات الرمز، وهمساته، فلم نكن نهتف إلا بحياته، ولا نفكر إلا من خلال ما يراه،.. نجيد بمهارة تجسيد الفكرة في شخص الرمز المنتظر، ونقدسه إذا ظهر، ثم نقلد كل همساته وآهاته، وإذا تبدلت أفكاره ومواقفه تبقى التبعية والهوى... فالناصرية، وقصة ثورتها العسكرية خير مثال لسقوط نظرية الرمز والاتباع،.. فقد تلاعب الرمز بعواطف الاتباع، وتغيرت تفاصيل ومقاصد الثورة، وانفرد بالمجد، ومات الشعب ولم يعلن الشعراء وفاته، فكلهم فداء لروح الناصر صلاح... كان عبدالناصر، خير مثال للرمز في تاريخنا المزيف، فقد خلق معنى جديدا للوحدة، ولم تكن وحدة المنافع والمصالح والتنمية البشرية، إنما كانت وحدة الإيمان به كقائد ورمز دائم لأمة العرب..كذلك فعلت رموز الطائفية الدينية والبعثية والاشتراكية العسكرية، ولم يستطع الإنسان العربي الوصول إلى حقيقة إدراك أهمية استقلال قراره وتطور وعيه لكي يتمكن من امتلاك الوسائل التي تطالب بحقوقه الضائعة، وتمنحه «الثقة» في القدرة على المشاركة...، ويا ليتهم قبل إعلان وفاة أمة العرب، أعلنوا وفاة الرمز للأبد، فالأمة لم تكن في حاجة لرموز يقذفون بها في أتون الحروب ، ولكن كانت في أمس الحاجة إلى التطور إلى حيث الاقتصاد القوي، والمجتمع المتحضر، والقوى العاملة، والشفافية وغيرها .. فاللهم ارحم أمة العرب.
|