* س: - أرجو أن يتسع صدركم لسؤالي مع أمل عدم حظر أي كلمة ترد فيه، تعلمون أن بعض الجنايات قد يكون أحد أطرافها (مريض نفسياً) أو من لا يستطيع الدفاع عن نفسه بسبب ضعف ثقته في نفسه ونحو هذا فيرتد في تهمه المجردة إلى أنه جان أو متهم بقدر كبير نسبياً 70% أو حتى 90%..
فكيف تكون حال الضَّعيف؟
م.ل.م.أ/ البحرين
* ج: - ليس يمكنني حذف أي كلمة ترد منك أو من غيرك في سؤال علمي مُهم أو سؤال حقوقي ما كسؤالك الكريم فسياسة الرأي في المملكة فيها من الحرية والمشاركة في الرأي والطرح العلمي وحتى السياسي العاقل الحكيم فيها من الحرية قدر كبير جليل نُحسد عليه ويجعل المطلع على سياسة الكلمة هنا يتمنى عمومية هذا في كثير من الدول التي قد تكون حُرمت حرية الرأي،
أما الاجابة على سؤالك الجيد فكنت قد ذكرت شيئاً من هذا في مناسبة علمية مهمة أنقل لك طرفاً من ذلك الكلام قلتُ هناك: لا جدل بين العقلاء أن الإنسان مبرأ بالأصل الأول مما يوجه إليه من تهمة تمسه أو تشير إليه فلا يؤاخذ الإنسان بالتهمة فقط ولا يقبل قول أحد فيه ما لم يدن بالحقيقة الثابتة التي تثبت انه ليس متهما بل فعل ما يؤاخذ به بالدليل المشاهد الذي لا يدخله عارض أو ما يجعله محل نظر أو شبهة، ولهذا درأت الشريعة الحد بالشبهة الحاصلة حيث تبرأ الذمة ببراءة جانب المتهم وعدم اقتراف ما يوجب اقامة الحد أو التعزير عليه مادام متهماً ليس غير، وقد كنت أنصح بها واليوم بدا لي أنه يلزم كل من أناط الله به مسؤولية النظر أو التنفيذ الأخذ بها لما لهذه الوسيلة من فائدة عظيمة، قال بها الشرع ودل عليها العقل، وقد أفادني كثير من الآمرين أنهم وجدوا راحة كبيرة في تطبيق درء الحد بالشبهة وعدم المؤاخذة بالتهمة مجردة وبعض المتهمين يكون ضعيف الشخصية جدا أعني انه ليس واثقاً من نفسه فيظن المحقق معه انه المعني بالتهمة وانه المرتكب حقا لما اتهم به دون سواه، من أجل ذلك فإن مراعاة حال نفس المتهم على ضوء الفهم ونتيجة الدورات التي أدعو إليها لا دراك حقيقة طبيعة النفس أمر مهم جداً فكم من إنسان أدين بسبب ضعفه وتردده أو خوفه من المواقف بينما الحقيقة أنه بريء وقد نظرت في هذا كثيرا وأدخلت علم النفس الاسلامي في كثير من هذه المواقف فوجدت المتهم بالسبب الحاصل غيره هو المتهم ولهذا فأنصح أن يوقف بجانب المتهم حتى يتمكن حساً ومعنى من إدراك حقيقة الموقف ليتكلم بما لديه كما لو كان يتحدث أمام ذويه والمقربين إليه.
قلت والشبهة هي ما يشبه الثابت وهي وجود المبيح للفعل صورة لا حقيقة.
والشبهة دارئة للحد وهي وسيلة لرفع ما اتهم به المتهم ما دام أنه لم يثبت عليه ما يدينه وهذا أمر معتبر للأدلة التالية:
الأول: ما ورد عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن وجدتم للمسلم مخرجاً فأخلوا سبيله فإن الامام لأن يخطئ في العفو خير له من أن يخطئ في العقوبة».
الثاني: روى الحسن بن صالح عن أبيه قال: بلغنا أن عمر رضي الله عنه قال: «إذا حضرتمونا فاسألوني العفو العفو جهدكم فإنني لأن أخطئ في العفو أحب إلي من أن أخطئ في العقوبة».
الثالث: عن أبي وائل عن عبدالله قال: «ادرؤوا الجلد والقتل عن المسلمين ما استطعتم».
الرابع: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «ادفعوا الحدود بالشبهات».
الخامس: روى عبدالرزاق في مصنفه بسنده عن سعيد بن المسيب قال: «ذكر الزنى بالشام فقال رجل زنيت البارحة فقالوا ما تقول قال ما علمت أن الله عز وجل حرمه فكتبوا بذلك إلى عمر بن الخطاب فكتب إليهم: إن كان عالماً فحدوه، وإن لم يكن علم فاعلموه فإن عاد فحدوه».
وقد ذكر ابن قدامة صاحب المغني أن ابن المنذر قال: «أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن الحدود تدرأ بالشبهات، وما رواه عبدالرزاق في المصنف عن الزاني وما قاله عمر بن الخطاب في حقه كافيا للقول بوجوب النظر في حال المتهم وما اتهم به ليكون العدل آخذاً دوره في الحياة ولا جرم فإن الشريعة في هذه الناحية وما ورد فيها من آثار لتحقيق العدل الصحيح تجاه من اتهم من بني الإنسان.
وأرى من لازم القول في الحديث عن هذه الوسيلة المهمة أن أناقش ابن حزم رحمه الله تعالى فيما أورده في المحلى حيث أنه قد رد الاثار الواردة في درء الحد بالشبهة وشدد على الآخذين بها قال رحمه الله ما فحواه: لأن ما اعتمده هؤلاء من الآثار كلها في اسنادها نظر لا يصح ان تكون حجة ولا يقوم بسببها حكم يؤخذ به.
وليس لي أمام الكلام إلا القول إن هذه الآثار لا ترد لأن في اسنادها مقالاً فهي باعتبار القبول مأخوذ بها لأنها وردت كثيرة عن جملة من الصحابة والتابعين فهي على هذا يقوي بعضها بعضاً ولا يحق لابن حزم ولا لغيره رد ما وردنا بحجة أن السند فيه نظر وكثرة هذه الآثار عن مثل هؤلاء معتبرة عظيمة في ميزان تقرير الأحكام ولا كلام.
ولا يناقض هذا مذهبي في الحديث حيث لا آخذ إلا بما ثبت وصح لأن الآثار الواردة دالة على حقيقة العمل بها غيرها في مجال درء الحدود بالشبهات في حال الاتهام دون سواه، وهذه الوسيلة تجعل للحاكم باباً يتقي به غضب الله فحين النظر وحين اصدار الاحكام فلا عجلة ولا ملل ولا نفور ولا تنفير، وهذه الوسيلة يشهد لها غيرها كثير من الوسائل التي تجعل المتهم في حال براءة فيكرم ولا يعتدى عليه ما دام في حال هو فيها محل نظر دون الادانة بما اقترفت يداه على الظن سواء بسواء.
ولعل في قصة ما عز رضي الله عنه ما يدل على أن الحد يدرأ بالشبهة كما روى قصته غير واحد ممن اطلعنا على كلامهم من أهل العلم.
فدرء الحد بالشبهة قاعدة عظيمة في كل ما يرد على الحاكم من قضية كبيرة كانت أو صغيرة بل هي قاعدة يأخذ بها حتى الأب في بيته مع زوجته وولده والمدرس مع طلابه وهي خير كلها لمن يأخذ عقل ودراية ونظر بعيد وهي مع تقوى الله كنز عظيم تنجي صاحبها أيا كان من الزلة والحيف وسوء الظن، وقد رأيت الناس في هذا العصر عمهم إلا من شاء الله منهم سوء الظن ومرجع هذا في الغالب ضعف الايمان وعدم الثقة في النفس، حتى لتجد الغالبية تغلب سوء الظن وتعمل على أساسه والحاكم من باب درء الحد بالشبهة ورد التعزير له أن يعرض بما يفهم منه عدم حصول ما حصل إذا كان المتهم ليس من ذوي السوابق لما جاء عند الطحاوي بسنده عن علي رضي الله عنه «أن رجلاً أقر عنده بالسرقة فرده وفي لفظ فانتهره وفي لفظ فسكت عنه ثم عاد بعد ذلك فقال علي: شهدت على نفسك شهادتين فأمر به فقطع»، وعن أبي أمية المخزومي رضي الله أنه صلى الله عليه وسلم أتى بلص قد أعرف ولم يوجد عنده متاع فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما أخالك سرقت فقال بلى يا رسول الله.. فأعادها عليه مرتين أو ثلاثا»، وفي جماع هذا عن زيد بن أسلم رضي الله عنه أن النبي صلى قال: «يا أيها الناس قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله عليه فإن من بين لنا صفحته أقمنا عليه كتاب الله». وورد: «تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني عن حد فقد وجب»، وجاء في مسلم «من ستر على مسلم ستره الله في الدنيا والآخرة»، وكل هذه الآثار تبين البيان التام درء الحد بالشبهة وتضييق دائرة أخذ المجرم هكذا.
وقد تكلم العلماء عن الشبه وأقسامها فقد تكلم عنها الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وهذه مواطن بحث الشبه وأقسامها أضعها أمام القاضي ورجل الأمن الذي ينظر في هذه الحال للوصول الى الحقيقة من خلال الطريق الصحيح، حتى يتمكن من الاحاطة بقوة وحجة على هذه الحقيقة الغائبة الحاضرة:
أولاً: ذكر ذلك في: شرح فتح القدير جـ4 ص141 ودرر الحكام جـ2 ص64، وبدائع الصنائع ج7 ص36، وشرح الهروي ص142، والأشباه والنظائر ص127، وحاشية ابن عابدين جـ4ص21.
ثانياً: قواعد الأحكام جـ2 ص154، وفتح الوهاب جـ2 ص156، وحاشية البجرمي على الخطيب جـ4 ص147.
ثالثاً: مغنى المحتاج جـ4ص144.
رابعاً: المغني جـ10 ص159، والأنصاف جـ10 جـ4 ص153.
والقاضي في مجلس القضاء لا يعول على كتاب واحد فقط في مذهب واحد فقط بل عليه نظر المسألة حسب الدليل وذلك بالرجوع إلى كتب شروح السنة المتوفرة فيما كتبه ابن حجر والنووي والعيني والشوكاني وسواهم ويعول على مطولات الفقه في المذاهب وذلك لاختلاف العلماء لا من حيث ماهية الخلاف نفسه بل من حيث سعة العلم وأمانة النقل وصدق التصور وصحة النص المنقول وهذه واحدة لاشك أن الأخذ بها من قبل القاضي ورجل الأمن أياً كان، تعطيهما راحة الضمير وسعادة القلب وسلامة النفس من الوساوس ذلك: أن درء الحد أمر مهم جداً ولا يحصل هذا ما لم يكن القاضي واسع النظر في المطولات لا يكتفي بما يكتب له أو يلخص وهذه عين السلامة بحصول هذا والثانية: زيادة الوعي العقلي التصوري فقد مكثت سبع سنين أفتي حسب الدليل، فكنت أطالع العديد من المصنفات وكنت استشير جداً حتى من الله علي بالقبول وتزاحم الناس.
وقد أفادني النظر العام ما لم يفدني النظر الخاص ولم أوكل من يبحث لي اللهم إلا أنني أكلف بعض الناس باحضار الكتب ليس غير وهذا علي فيه مشقة جدا لكنها تزول بوقوفي حقا على مرادي بنفسي، وليس أعظم من الفائدة إلا طلبها برغبة وصدق اقبال وحسن مقصد ونبل مطمع، ولعلك ترى أنني تكلمت فيما مضى عن درء الحد بالشبهة فيما يخص الحدود لكن هل ينطبق هذا على التعازير الحق أنني لم أجد في هذا نصاً أعقل ولم أعثر على قول معلل قال بهذا لكنني أيضا لم أجد ما يمنع جريان هذه القاعدة على التعازير وما دام الامر في هذه المسألة يدور حول تحقيق العدل مع المتهم بالبراءة الاصلية فكيف أمنع عنه الحد ولا أمنع عنه التعزير ما دام لم يثبت في حقه شيء ووجود التهمة فقط لم أقف على نص بلزوم المؤاخذة بها لكن يلاحظ هنا أن التعازير يخالف أمرها الحدود وذلك أن جريمة التعزير ينبغي ان يكون سببها الدارئ للتعزير بالامور التي يعزر فيها المتهم حال وقوعه فيها ولناظر القضية نظر هذه النقطة فهي مهمة جدا وبها محصل جيد من الخروج من دائرة اللوم أمام الله يوم الحساب.
|