Friday 26th september,2003 11320العدد الجمعة 29 ,رجب 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

قم للمعلم وفه التبجيلا قم للمعلم وفه التبجيلا
أيها المحسود من بين الرجال
محمد عباس خلف

لستُ أعرف قصيدة عربية نالت من الشهرة والذيوع والاعجاب عامة، ولا تزال درة في كل ميادين التربية والتعليم خاصة مثل تلك الخريدة الخالدة التي كتبها أمير الشعراء أحمد شوقي 1924م «قم للمعلم»، ولو لم يكن شوقي أميراً للشعراء بشعره عامة لاستحق ان يكون أميرهم بهذه القصيدة وحدها:


قم للمعلم وفه التبجيلا
كاد المعلمُ ان يكون رسولا
أعلمت أشرف أو أجل من الذي
يبني وينشئ أنفساً وعقولا

ويقول:


فهو الذي يبني الطباع قويمة
وهو الذي يبني النفوس عدولا
ويُقيم اعوج كل اعوج منطق
ويُريه رأياً في الأمور سبيلا

هذا هو المعلم وريث الأنبياء عند أمير الشعراء، لكن إبراهيم طوقان الشاعر المعروف الذي كان يعمل معلماً، وكان قد عرف حقيقة ما يعانيه المعلمون من عملهم، ومن طلابهم يرد على أحمد شوقي بقصيدته «شوقي يقول وما درى بمصيبتي»:


شوقي يقول وما درى بمصيبتي
قُم للمعلم، وفِّه التبجيلا!!!
أقعد، فديتك هل يكون مبجلاً
من كان للنشء الصغار خليلا
ويكادُ يفلقني الأمير بقوله
«كاد المعلم ان يكون رسولا!
لو جرب التعليم شوقي ساعةً
لقضى الحياة شقاوة وخمولاً
حسب المعلم غمة وكآبة
مرأى الدفاتر بكرةً وأصيلا
مئة على مئةٍ إذا هي صُلّحتْ
وجد العمى نحو العيون سبيلا
لو أن في التصليح نفعاً يرتجى
«وأبيك» لم أكُ بالعيون بخيلا
لكنْ أصلحُ غلطةً نحوية
مثلاً، واتخذ الكتاب دليلا
مستشهداً بالغر من آياته
أو بالحديث مفصلاً تفصيلا
وأغُوص في الشعر القديم وانتقي
ما ليس ملتبساً ولا مبذولا
وأكاد أبعث سيبويه من البِلى
وذويه من أهل القرون الأولى
فأرى «حِماراً» بعد ذلكَ كله
رفَع المضافَ إليه والمفعولا
لا تعجبوا إن صحتُ يوماً صيحةً
ووقعتُ ما بين البنوك قتيلا
يا مَن يريد الانتحار وجدته
إن المعلمَ لا يعيش طويلا

في هذه النفثة المكلومة التي أخرجها طوقان بالزفرات المحرقة، وهي وإن كانت واقعية من حيث العمل والأداء، فالحقيقة التي لا يدركها أحد حقاً ان المعلمين والمعلمات هم أكثر الناس تعباً، وهم أكثر الناس عطاءً، هم أكثر العاملين عناء جسمياً ونفسياً.
وإذا كان أحمد شوقي في خريدته قد ذكر الحقيقة العليا للمعلمين، وذكر أنهم الأس الذي تقوم عليه الحياة النبيلة الكريمة، وأنهم هم دعامة كل هذا التطور، وهم يرفضون ان يكونوا غير معلمين، وشوقي كما هي رسالة كبار الشعراء محق في ذلك، فالقيمة التي يصل إليها الإنسان إنما تكون بقدر تأثيره في الحياة والناس، أما طوقان فقد رصد الواقع اليومي للمعلم، وهو يرى المنظر الكئيب من الكراسات التي أعمت ناظريه، وقد أعطانا لقطاتٍ شعرية من داخل الفصل، ولكني لا أوافقه على ذلك الذي قاله أبداً، واكتفى بهذا الذي قاله قبل المعلم الشاعر، محمد بن عبدالله الهرساني، قال يخاطب طوقان:


طوقان يبكي والسعادة حوله
هوِّن عليكَ فليس ذا تحليلا
العلم نور والمعلم شمعة
والحِملُ في التعليم جد ثقيلا
أخطأت يا طوقان فيما قلته
شوقي أميرٌ لن يكون كسولا
لو جرب التعليم شوقي ساعة
لقضى الحياة معلِّما ودليلا
واختار ان يبقَى وجَرَّ رفاقه
وتحولوا عن «شغلهم» تحويلا

حتى يقول رَادًّا على طوقان:


اعْطِ الحمارَ حلاوةً علميةً
واستخدم اللقطَ الجميل سبيلا
تجد الحميرَ تحولتْ وبسرعةٍ
تذهلك فرسَاناً تقُودُ خيُولاَ

ولي وقفة صغيرة مع الشاعرين: أسلوب أمير الشعراء من الرقي الفكري والتربوي والأسلوب البلاغي ما يؤكد ريادته للشعر الحديث، وفهمه لرسالة المعلمين والشعراء أما أسلوب طوقان فهو بجانب أفكاره الهدامة لعزائم المعلمين، واتهامه الطلابَ بأنهم «حمير» فقد نزل أسلوبه وصياغته الشعرية إلى مستوى العامية في بعض كلماته، مثل «الدفاتر، التصليح، يفلقني، البنوك» قصيدة شوقي تربوية ذات أهداف سامية ومبادئ عليا، وكأنه كان يستشرف منذ ثمانين عاماً تلك القضية التي نعاني منها اليوم، ومن أجلها كانت منذ فترة قريبة هذا العام الندوة الكبرى لوزارة التربية والتعليم «ماذا يريد التربويون من المجتمع..» ذلك لأن الأسرة الآباء والأمهات مشغولون بالدنيا عن متابعة أولادهم، وعن تقويم أعمالهم، وكأن شوقي كان حاضراً لتلك الندوة، وقال:


ليس اليتيم من انتهى أبواه مِن
هُمِّ الحياة وخَلَّفَاهُ ذليلا
إن اليتيم هو الذي تلقَى له
أُماً تخلتْ أو أباً مشغولا

وننتقل إلى إخواني المعلمين الشعراء السعوديين الذين يعملون معنا حتى اليوم أطال الله عمرهم يصورون فيلماً تعليمياً متعدد اللقطات هذا أخي الشاعر مصطفى عبده الصياصنة الذي جعل المعلم رائداً مغموراً كما هي الحقيقة المرة قال وقد أوشكتْ الدراسة ان تبدأ عامها الجديد:


وقفَ المعلمُ حائراً مبهورا
مِن بعد ما لزِم الفراغَ شهوَرا
ومضَى يلملم جَهدَهُ برويةٍ
علَّ العزيمة ان تعودَ بَدُورا
فدفاتر التحضير أمسَتْ مطلبا
لا بدَّ من تزويقها، تحبيرا
والواجباتُ غدتْ قَرينةَ عُمرهِ
وغدا الخلافُ بشأنها مشهورا
صَحِّحْ وراجِعْ ثم دقق، هَذه
إن لمْ تدُقِّقْ تكتسبْ تحذيرا
ويجيءُ سيدنا الموجه يقْتفِي
نهج البلاغة خاطباً مغفورا
وأتَى إلينا والأُسُودُ ملائكٌ
في رأى حضرته يفحْن عُطورا
المستوَى ضحْلٌ، ونرجو جدةً
في السَّعيِ، قد قَصَّرتُمُ تقصيرا
خُذْ يا هُمامُ أحلهُمُو مُتنبياً
أو جاحظاً فاق الزمان شعورا
أنسيتَ يوماً كنتَ فيه معلماً
تشكو العفاءَ عشيةً وبكورا
والآن جئت تَصِيدُ كل خطيئةٍ
مِن مُتْعَبٍ عَبَّ الشقاء قُدورا
ورضا المدير قَضيةٌ مفهومُها
أنَ المدرس قد يصير جديرا
إنْ يَرْضَ عنكَ تجئْك كل رضيةٍ
والذنب صار بعفوه مغفورا
وغدوتَ يا شَهدُ المقدمَ عنده
ولسوفَ تبقَى آمنا مستورا
وإذا فشلت بنْيلِ حُسْن وِدادِه
عِشْتَ الليالي ساهراً مكدورا

وهذا زميلنا الشاعر عبدالله بن سعد السفياني في مثل حالنا يقول:


قَد قيلَ لي مُتْ قاعداً انظر فقد جاء الشباب الأقوياءْ
مُتْ قاعداً لتعدَّ ما يبقَى من الأيام قَد حلَّ القضاء
ها قد كساكَ الشيب حُلَّته وهذا الشيب ينذرُ بالفناءْ
أفنيتَ عُمَرك أيها الشيخ المهيب بهمزة فوق العصاء
أفنيتَ عمركَ ردِّدوا ألفٌ ألِفْ، ألِفْ، ألِف ألفْ وباء

أما الحقيقة التي لا إنكار لها فتجيء واضحة مجسمة في قول صديقنا المعلم الشاعر حمد بن عبدالرحمن الدعيج.. حين قال:


في البابِ يبدو ناظرٌ ونظيرُ
متجهِّمينَ، موجِّهٌ ومديِرُ!
دَخَلاَ، فأوجسْتُ التخوف منهما
والقلبُ مِن وجلٍ يكاد يطيرُ
هذا يُطالعَني بنظرةِ ناقمٍ
وكأنني في ظنه شِرِّيرُ
ورفيقُهُ قد راح ينظر حانقاً
حتى كأني مجرمٌ وخطيرُ
أنفاسِىَ الحرَّى تكتَّم رهبةً
والضيقُ يخنقني، فما التدبيرُ؟!
جرسٌ يدقّ معلناً ومفرجا
كربي، فنِعم مفرِّج ومجيرُ
جرسُ النجاةِ يدقّ، أعشق صوتَه
أصداؤه يأتي بها التبشير
قد كنتُ أحسبني نجوتُ من الضنَى

فإذا سيادته إليَّ يُشير:


أين الدفاتر؟ أين كراساتُ مَن
قد زرتهم؟ بل أينها التعبيرُ
ويقلب الصفحات يُبدِي سخطه
مما يرى، ويخونني التبريرُ
عَرقِي تَصببَ خَيْبةً ممَّا بَدا
حاولت أخفيه وذاك يضيرُ
وموجهي، اللهَ منه موجهى
يتصَّيدُ الهفوات وهو قديرُ
يسعى لكشف مثالبي ببراعةٍ
في صيدها متمرس وخبير
وهناكَ أدهى بل أمرُّ مِن الذي
عانيتُهُ، فبلائيَ التحضيرُ
ليتَ الموجه قد طوى تقريره
فيعيفني مما حوى التقريرُ
أوصي المعلمَ، أن يراعِي ما الذي
يأتي، وإلاّ الطرد والتطييرُ
طوعاً ألبي ما الذي تأتي به
فالامرُ أمرك يقتضي التدبير
أنا طوعَ أمرك سيِّدي، أنا آسفٌ
قد ساءني الإهمال والتقْصير

ومع كل هذه المآسي التي يقاسيها المعلمون فإن المعلم محسود من الناس جميعا كما صورته قصيدة المعلم الشاعر/ مروان علي رباح المزيني، يقول:


أيها المحسود يا نعم المثالْ
أيها المحسود من بين الرجالْ
يحسدونكَ ما أراهم يحسدون
غير تمثال من التِّبْر المُسَالْ
يحسدونكَ في وقوفكَ شامخاً
من تباشير الصباحِ إلى الزوالْ
يحسدونك في جفاف الريق مِن
كثرة الترديد، من طول المقَالْ
يحسدونك في الطباشير الذي
ظلَّ منه الصدر دوماً في سُعال
يحسدونك أي قلبٍ هادئٍ
ما تضجَّر من جواب لسؤال
ليتهم قد ساءلوا أنفسهم
كيف أتقن ابنهُم فنَّ القتالْ
كي يدافع عن أراضيه التي
ضمها عبدالعزيز مع الرجالْ
ليتهم ساءلوا أنفسهم
كيف أتقن ابنهم طب الهلالْ
كي يداوي من أتى متألما
يشتكي سقماً وثقلا واعتلالْ

ولهذا فإن أخي الشاعر علي رباح المزيني عاد إلى المنزل وهو يطير فرحاً حين جاءه خطاب انهاء الخدمة، وخلاصه من الحصص كأني أراه يجري في الشارع ويقول عنوان قصيدته: ما عاد ثَمَّة حصة في جَدْوَلي: منها قوله:


فأنا المعلمُ قد حملتُ رسالة
أبغى بها دوما رضا الرحمنِ
ونسيتُ نفسي في خضم معاركي
وقطعت شوطاً من شريط زماني
ستون عاماً سارعَتْ برحيلها
فحسبْتُها في الدهر بضعَ ثوانِ
فإذن النظام يقول لي بصراحةٍ
ابرحْ مكانكَ في أدق بيان
لملمْتُ أوراقي وكل دفاتري
ودموع عيني هيجتْ أشجاني
ثم انصرفْت لمنزلي متثاقِلاً
في خطوتي متسربلاً أحزاني
يا أم أولادي إليّ بقُفةٍ
أغدو بها للسوق دون توانِ
سأعود بعد هنيهةٍ من خاطري
وأعيدها محشوَّة الأركانِ
فيها الفواكه أشرقتْ برؤوسها
مزدانةٌ بالتِّين والرمانِ

حتى يقول:


اقرأ على سمع الزمان بياني
وانشر على صفحاته إعلاني
ودعتُ رسمياً متاعب مهنتي
لكنها في العقل والوجدانِ

وهذا صاحبنا المعلم الشاعر فواز بن فَرح العبدلي معلم الصبيان يقول:


يا سائلي: إني هنا «مكتسِّفٌ»
يدعونني بمعلم الصبيان
يا ثكل نفسي يا مصيبة مهجتي
يا شيب رأسي في الزمان الفاني
والشيب بالمجان لا بد له
والسُّكريُّ وشدة الخفقان
أما ارتفاع الضغط حتمٌ لازمٌ
يلقاه بين دفاتر الفتيان
هل في بلاد الله أقْسَى عيشةً
يا قومنا من مهنة الصبيان
لا تعذلوني حين أرثي مهجتي
من منكم عبر الزمان رثاني

هذا جانب من شكايات زملاء العمل..
لكنني أخالفهم في كل ذلك وأقول لهم عن صدق وإيمان ورسوخ يقين بعد أربعين سنة كاملةٍ في تلك المهنة الشريفة:


إنِّي لأرفُضُ أيَّ اسْمٍ بَاهِرٍ
فِي عَالمِ الدنيَا، بِأيِّ مَكَانِ
إنِّي لأرفُضُ أن أُلقَبَ غَيْرَهُ
اسمَ المعَلِّمِ رَائدَ العِرْفَانِ
يَفْنَى الجَمِيعُ، وينْتَهِي عَهدٌ لهُمْ
وَأظَلُّ خُلْداً مِثْلَ خُلْدِ زَمَانِي
فِي كُلِّ دربٍ خُطّوةٌ مشكُوَرةٌ
فِي كُلِّ بَيْتٍ صَورَتِي وبيَانِي
ومعاهد التعليم جنّات بها
آيات ربي قد عَمَرتُ جناني
منْهَا أُقَدِّمُ للبِلادِ حِمَايَةً
ومَوَارِداً فَيَّاضَةَ الشُّطْآنِ
النَّهْرُ عِندي سَائغٌ سَلْسَالُهُ
يَرْوِي النفُوسَ بصادق الوجدان
افنيتُ عمري في الطريق تعلماً
لأعلم الأجيال نُطق لسان
من كل الوان المعارف ثوبها
دوماً قشيباً زاهي الألوان
يا موكب النور السَنِيِّ تحيةً
فيحاء، يعبق بالشذا بُستاني
يا صَفوة الأنام جئتم مثلما
يأتي ضياء من لدى الرَّحمَنِ
أمجَادُ موكبكم تسامع لحنهَا
كل الوجود وكَبَّر القَمَرَانِ
هو كالربيع بزهوه وجماله
أو كالحياة تجيء للإنسَانِ
إني لأقسم صادقاً عَهداً ومَا
أولاه من عَهْدٍ مَعَ الأوطَانِ
لَكِ يا بلادي مَا حَيِيتُ تَفَانِيا
صِدقُ الوَلاَءِ ومهْجَتِي وكيَانِي

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved