في هذا الأسبوع الذي نهايته هذا اليوم، مرّت بأحد أيامه، مناسبة أثيرة على كل فرد في هذه البلاد، إنها ذكرى اليوم الوطني لتأسيس المملكة الذي لا نعتبره عيداً، كما ترى ذلك بعض الأمم، عيداً من أعيادها، ذلك اننا في هذه البلاد، الذي ندين بالفضل لله سبحانه، بأن منّ علينا بالإسلام دنياً، وبقيادة تحرص على أن تنطلق في جميع أمورها من منهج الإسلام: عقيدة وتطبيقاً، فقد اعتبرت هذه القيادة، العيد كما بيّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، عند ما رأى أعياداً في الجاهلية، فقال لأصحابه: «لقد أبدلكم الله عن أعيادهم، بعيدين: عيد الفطر وعيد الأضحى».
لكن هذه المناسبة لها عندنا طعم آخر، ورابطة مكينة، حيث نتذكر نعم الله بربط حالة بحالة ما كنّا فيه سابقاً، وما وصلنا إليه حالياً، لنشكر الله عزّ وجلّ، على ما منّ به من وحدة وطنيّة، تحت قيادة المؤسس الباني، الملك عبدالعزيز - رحمه الله - الذي عانى مع رجاله المتاعب والمشاق، ليحصد المواطن الثمرة، وينعم بالأمن للقول المأثور: نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الأمن والصحة.. وهي نعم كبيرة تزداد بالشكر.
لقد سبق مسيرة البناء، وتوحيد البلاد، أيام مظلمة أحاطت بهذه البلاد، فمع زاوية التاريخ المنسيّة، كان الخوف والفقر والجهل، حتى الحج لبيت الله الحرام، الذي هو فريضة لازمة على المستطيع، كان يعتبر مغامرة من المغامرات، وإلقاء بالنفوس إلى التهلكة، لانعدام الأمن، فكان العائد سليماً صاحب حظّ، حيث ينطبق على الوافدين للحج ذلك الوقت ما يقال عن البحر: داخله مفقود والخارج منه مولود.
فهيأ الله الملك عبدالعزيز الذي بدأ مسيرته بمغامرة حريئة، فتح بها الرياض صباح يوم 5 شوال 1319هـ فتحمل في ذلك مع رجاله الأشاوس الكثير والكثير من الجهد والسّهر ومن المعاناة والتحمل، لأن ثمن ما يتفيأ ظلاله المواطن اليوم، كان غالياً، من بناء الأجيال، وتوحيد الدّيار، وتغيير المعالم، مما يجب أن يدركه كل فرد عندما تمرّ المناسبة السنوية، ليحمد الله ويثني عليه بما هو أهله، حيث وفّق الله الملك عبدالعزيز - رحمه الله - بأفقه الواسع، ونظرته البعيدة، إلى جمع الشمل، وتوفير الأمن، واهتمامه بتطبيق شريعة الله في الأرض، بعدما كادت تندرس معالمها، ورعايته المقدسات الإسلامية، حيث أخذ عنه أبناؤه هذا المنهج، فحفزتهم كل مناسبة، تربطهم بتلك الأعمال، إلى مضاعفة الجهود، وترسم الخطى، في ترسيخ ما شيد من بناء قد أسست دعائمه، على روابط متينة.
فقد اجتهد عبدالعزيز، في مشواره الذي مرّ بأدوار، خلال فترة زادت عن ثلاثين عاماً، بعدها بدأ عهد الاستقرار في عام 1351هـ، عندما اجتمع أقطاب البلاد، في مكة وقرّ رأيهم على اغلاق باب شرّ - كما قال العطار في صقر الجزيرة - ألا وهو عدم توحيد المملكة، في اسم يدل على وحدة تتفق في العادات والتقاليد والوطن، وتقضي على المنازع والأهواء، كما يجتث بذلك الفتن وجذورها.
وقدم الأهالي المشروع النبيل الذي أيده المواطنون في أرجاء البلاد وهو: ايجاد اسم جديد اتفق الرأي عليه، يحمل مدلول المناسبة، والوحدة الوطنية، في دولة عربية زعيمها وضع الأسس وبذل الجهد، حتى تمت الوحدة التي ربطت بين أفراد الأمة وهو اسم: المملكة العربية السعودية، الذي اتفق عليه الكلّ: حاضرة وبادية، فارتاح لذلك الملك عبدالعزيز، وأصدر مرسوماً ملكياً برقم 2716 في 17 جمادى الأولى 1351هـ، الموافق 18 سبتمبر 1932م، نصت المادة 8 منه على أننا نختار يوم الخميس 21 جمادى الأولى 1351هـ، الموافق اليوم الأول من الميزان، يوماً لإعلان توحيد هذه المملكة العربية ونسأل الله التوفيق «وهذا التاريخ يصادف 22 سبتمبر».
وهذا يعني أن البلاد بعد توحيدها، أصبحت دولة عربية إسلامية، ذات سيادة، تحت زعامة ترعى المقدسات الإسلامية، وتهتم بأمن ضيوف الرحمن ورعايتهم، وخدمة الحرمين الشريفين، وتطبّق أحكام شرع الله في شؤونها، ويتساوى في الحق الجميع بدون تفرقة، حيث ظهرت هذه الدولة بوحدتها الوطنية، ملتفة متفقة، وراء قيادتها مستجيبة راضية، بعد أن طال الانتظار لمن يقودها، فكانت الأمنية متحققة في الملك عبدالعزيز بذكائه وحنكته.
وقد برزت - بحمد الله - الآثار في كل موقف، حيث التأم الشمل أمام كل حادت يمرّ، واستنكر العلماء والمفكرون كل عاصفة تريد لهذه الوحدة أن تنفصم، ولكل محاولة للعدو أن يبذر شراً بين الصفوف، أو يفتح باباً من الفساد.
وقد بدأ عهد البناء بعد دور التأسيس، لتثبيت أركان الدولة، حيث رشح الملك ابنه سعوداً، لولاية العهد نيابة عن الشعب الذي أيد هذا الأمر، فأبرق الملك من مكة لابنه سعود - رحمهما الله - بالرياض يحيطه علماً بما تبلغ به، عن الرضا عن مبايعته والسرور بذلك، مما يبرهن على التلاحم بين القيادة والقاعدة، ويوصيه بعشر وصايا ختمها بقوله: هذه مقدمة نصيحتي إليك، والباقي يصلك إن شاء الله في غير هذا، ثم دعا له بالتوفيق والإعانة.
ومثلما كانت القلوب مطمئنة بالوحدة الوطنية، فقد كانت النفوس مغتبطة بتنظيم الملك ثم بما تلا ذلك من
أنظمة استوجبها تكوين هذه الدولة، لتريح المواطن، وتهيئه لما سوف يلي هذه الجهود من أمور ترفع من مكانة البلاد: علمياً واجتماعياً، وتعطي دلالة على أن الدولة جادة في البناء، ومسارعة بما ينفع الفرد والجماعة، خاصة وأن هذه البلاد ذات خصوصيات والعمل يحتاج لأولويات، رغم قلة الموارد: زراعياً ومعدنياً..
لكن الله هيأ الخير الكثير، مع صدق النية، والإخلاص، ففي مدة قصيرة تهيأت الأسباب في جميع ميادين الحياة، وبالسعي الجاد فتح الله كنوز الأرض، التي سخرت بعد الحرب العالمية مباشرة، للمشروعات الإنمائية، ولبناء العقول بالعلم والبلاد بالإعمار والطرق، وتيسير المواصلات لربط أجزاء البلاد المتباعدة.
إن مرور اليوم الوطني للمملكة: يعني تنبيه الفرد والجماعة، في هذه البلاد بإدراك فضل الله عليهم، بما تهيأ لهم في مدة هي في عمر الزمن والشعوب قصيرة لكنها في الاهتمام من المسؤولين، ورعايتهم لمصالح الوطن والمواطن، كانت شيئاً كبيراً إذ في خلال المدة الزمنيّة، منذ عبّر المواطنون عن سعادتهم بالوحدة الوطنية، التي جمعت شملهم، وربطت القلوب مع أطراف البلاد: إخاء ومودة صادقة، والأجسام تسانداً في العمل ومساهمة في البناء، فقد تلا ذلك دور منظم في التخطيط وحث على العمل الذي وفر للمواطن مقترناً بالتسابق في التعليم بفروعه المختلفة في شتى المجالات، حيث حرصت القيادة الرشيدة المخلصة، على تحقيق كل جديد يتطلبه الشعب المتطلع للسير في ركب الأمم، تعليمياً ومهنياً، وشبكات طرق وعمرانياً وبنوك للتسليف، وصحياً بمستشفيات متطورة، تديرها أيدٍ وأفكار سعودية، أخذت بقسط وافر من التعليم المتاح للكل.. مع مسارعة للتخصص إلى جانب الاقتصاد والزراعة والصناعة، أمور كثيرة لم يكن لها وجود من قبل، تسارعت في الخدمة والعمل، وفي مسابقة مع الزمن، ليلحق هذا الشعب الذي نهض خلف قيادة حكيمة متأخراً، حتى يلحق بالركب الذي سبقه، مما يذكر بأمانة الذكر حتى يتبعه الشكر، ولاظهار المكانة التي وصلت إليها البلاد، مما يفرح الأصدقاء، ويغيظ الأعداء.. وبالشكر تدوم النعم ويتفضل الله بالزيادة، مما يدعو إلى أداء حقّ هذا الشكر لله أولاً ثم للقيادة والوطن ثانياً.
الرشيد وجعفر البرمكي:
جاء في العقد الفريد لابن عبدربه: إن جعفر بن يحيى قال يوماً لابراهيم بن المهدي: إنني استأذنت أمير المؤمنين في الحجامة، وأردت أن أخلو بنفسي، وأفرّ من أشغال الناس، فهل أنت مساعدي؟ قال ابن المهدي: جعلني الله فداك، أنا أسعد بمساعدتك، وآنس بمخالتك، فقال: بكرّ إليّ بكور الغراب.. فأتيت عند الفجر الثاني، فوجدت الشمعة بين يديه، وهو قاعد ينتظرني للميعاد، فصلينا الفجر ثم أفضنا في الحديث، حتى أتى وقت الحجامة، فأتى الحجام، فحجمنا في ساعة واحدة، ثم قدم الينا الطعام، فطعمنا فلما غسلنا أيدينا، خُلع علينا ثياب المنادمة، وضمخنا بالخلوق، وظللنا بأسرّ يوم مرّ بنا.
ثم إنه تذكرّ حاجة، فدعا الحاجب، فقال له: إذا جاء عبدالملك القهرمان فأذن له، فنسي الحاجب، وجاء عبدالملك بن صالح الهاشمي، على جلالته وسنّه وقدره، فأذن له الحاجب، فما راعنا إلاّ طلعته، فتغيرّ لذلك وجه جعفر، وتنغص عليه ما كان فيه.. فلما نظر إليه عبدالملك على تلك الحالة، دعا غلامه، فدفع إليه سيفه وعمامته، ومتاعه، ثم جاء فوقف على باب المجلس، فقال: أصنعوا بي ما صنعتم بأنفسكم.
فجاء الغلام وطرح عليه ثياب المنادمة، ودعا بطعام ثم بالشراب، ثم قال: ليخفف عني فإنه شيء ما شربته قطّ، فتهلل وجه جعفر فرحاً.. ثم قال له: جعلني الله فداك، قد تفضلت وتطوّلت؟ فهل من حاجة تبلغها مقدرتي، فأقضيها.؟.
قال: نعم: إن قلب أمير المؤمنين عاتب عليّ، فتسأله الرضا عنّى. فقال: قدر رضي عنك.. وعليّ أربعة آلاف دينار.
فقال عبدالملك: هي حاضرة ولكن من مال الرشيد أحب إليّ، ثم قال: وابني إبراهيم أحب أن أشد ظهره بمصاهرة أمير المؤمنين. قال: قدر زوجك أمير المؤمنين ابنته الغالية، قال: واجب أن تخفق الأولوية على رأسه بولاية، قال: قد ولاّه أمير المؤمنين مصر، فانصرف عبدالملك ونحن نعجب من إقدام جعفر على الرشيد من غير استئذان.
فلما جاء الغد وقفنا على باب أمير المؤمنين، ودخل جعفر على الرشيد فتم كل ذلك. ثم خرج جعفر فأشار الينا، فلما صرنا إلى منزله، ونحن خلفه نزل ونزلنا بنزوله، وقال لنا: تعلقت قلوبكم بأمر عبدالملك فأحببتم أن تعرفوا آخره، إني لما مثلت بين يدي الرشيد سألني عن أمسي، فحدثته بالقصة كاملة فجعل يقول: أحسن والله، فما أجبته؟ فجعلت أخبره وهو يقول في كل شيء أحسن، وخرج إبراهيم والياً على مصر.
«3:268».
|