لدى زيارة صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء ووزير الدفاع والطيران والمفتش العام -وفقه الله- لمنطقة القصيم استقبل سموه بقصره جموعاً من أهالي المنطقة مساء الأربعاء 20/7/1424هـ.
وفي الاستقبال القى سموه كلمة مختصرة طيبة، وجاء في هذه الكلمة تنبيه سموه على أهمية استشعار نعمة الإسلام والهداية إلى الصراط المستقيم، نبه سموه إلى أهمية الوسطية وقال في هذا السياق: «الوسطية التي نعيشها جميعاً ونترك الغلو من جهة، وننبذ التخاذل عن الدين من جهة أخرى».
لقد كان هذا التنبيه من سموه مهماً جداً، وخاصة في خضم ما حدث في بلادنا من بعض أعمال التخريب والافساد.
وتكمن هذه الأهمية في توضيح معنى الوسطية التي أخطأ فهمها عدد من الناس فقد حدثت ردة فعل متطرفة لدى البعض بسبب أعمال التخريب والإفساد لصلتها بالغلو، وحملهم ذلك على أن يتصوروا بأن كل ما اتصل بالدين والتفقه فيه والتزود من الطاعات والأعمال الصالحات تصوروا ذلك غلواً وتشدداً مما حملهم على غض الطرف عن التقصير في الواجبات، والتواني عن الأعمال الصالحات، بل التساهل بالوقوع في المحرمات والموبقات.
وهذا يبين أن هؤلاء لما هربوا من التطرف من جهة وقعوا فيه من الجهة الأخرى، وقد جاءت معالجة سمو الأمير سلطان لهذا جامعة وشافية حيث قال: نترك الغلو من جهة وننبذ التخاذل عن الدين من جهة أخرى.
نعم: إن ترك الغلو في الدين لايعني ان يتخاذل الناس عن الدين ويسترسلوا في الشهوات وفتنها ولأجل هذا فإن الوسطية الحقة هي ان المرء كما يبتعد عن الشبهات والتشدد في الدين والغلو فيه فهو أيضاً يحذر من الشهوات ومزالقها.
وهذه هي سمة تميز الأمة الإسلامية فإنها أمة وسط من بين الأمم كلها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله «الجواب الصحيح ج9/ص71»: «ولذلك المسلمون وسط في الشريعة فلم يجحدوا شرعه الناسخ لأجل شرعه المنسوخ، كما فعلت اليهود، ولا غيروا شيئاً من شرعه المحكم ولا ابتدعوا شرعا لم يأذن به الله كما فعلت النصارى ولا غلوا في الأنبياء والصالحين كغلو النصارى، ولا بخسوهم حقوقهم كفعل اليهود ولا جعلوا لخالق سبحانه منصفاً بخصائص المخلوق ونقائصه ومعايبه من الفقر والبخل والعجز، كفعل اليهود ولا المخلوق متصفاً بخصائص الخالق سبحانه التي ليس كمثله فيها شيء كفعل النصارى، ولم يستكبروا عن عبادته كفعل الهيود ولا أشركوا بعبادته أحداً كفعل النصارى».
وأهل السنة والجماعة في الإسلام كأهل الإسلام في أهل الملل فهم وسط في باب صفات الله عز وجل بين أهل الجحد والتعطيل وبين أهل التشبيه والتمثيل، يصفون الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسله من غير تعطيل ولا تمثيل إثباتاً لصفات الكمال وتنزيها له عن ان يكون له فيها أنداد أو أمثال إثبات بلاتمثيل وتنزيه بلا تعطيل كما قال تعالى {لّيًسّ كّمٌثًلٌهٌ شّيًءِ} رد على الممثلة {وّهٍوّ السَّمٌيعٍ البّصٌيرٍ } رد على المعطلة.
وهم وسط في باب أفعال الله عز وجل بين المعتزلة المكذبين للقدر والجبرية النافين لحكمة الله ورحمته وعدله والمعارضين بالقدر أمر الله ونهيه وثوابه وعقابه.
وهم وسط في باب الوعد والوعيد بين الوعيدية الذين يقولون: بتخليد عصاة المسلمين في النار، وبين المرجئة الذين يجحدون بعض الوعيد، وما فضل الله به الأبرار على الفجار. وهم وسط في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الغالي في بعضهم الذي يقول بإلهية أو نبوة أو عصمة بعضهم، والجافي فيهم، الذي يكفر بعضهم أو يفسقه وهم خيار هذه الأمة.
وقد حذر المصطفى صلى الله عليه وسلم من هذا المسلك فقال: «إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين» رواه أحمد والنسائي وابن ماجة.
وهؤلاء تمادوا في هذا المسلك حتى حملهم على أن يجوروا في الأحكام على كل من لم يصاحبهم في غلوهم فتجدهم يطلقون أحكام الكفر والابتداع والفسق على من ليس لها بأهل بل ربما حملهم جورهم على استحلال ماحرمه الله من الدماء والأموال والأعراض بحجة ان مخالفهم كافر أو ضال.
وقد كانت نابتة هؤلاء إبان حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وحسهم في الضلال ان يكون مقدمهم ذلك الذي اعترض على سيد الخلق صلى الله عليه وسلم كما يبينه ما ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسماً أتاه ذو الخويصرة وهو رجل من بني تميم فقال يارسول الله اعدل فقال صلى الله عليه وسلم: «ويلك! ومن يعدل إذا لم أعدل؟! قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل» فقال عمر: يارسول الله ائذن لي فيه فأضرب عنقه، فقال: «دعه فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لايجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ينظر إلى نصله فلايوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى رصافه فما يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نضيه وهو قدحه، فلايوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث والدم... الحديث
فانظر كيف اجترأ هذا الرجل على اتهام النبي صلى الله عليه وسلم وتأمل في وصف هؤلاء الذي يأتون من بعده فإن ما عندهم من العبادة لايغني عنهم شيئاً بسبب ماهم فيه من الغلو الذي يحملهم على الاعتداء على الآخرين بالأقوال والأفعال.
والمعنى يريد الذين يتبعون شهوات أنفسهم من أهل الباطل وطلاب الفواحش وغير ذلك مما حرمه الله {أّن تّمٌيلٍوا مّيًلاْ عّظٌيمْا} عن الحق وعما أذن الله لكم فيه فتجوروا عن طاعته إلى معصيته وتكونوا أمثالهم في اتباع شهوات أنفسكم فيما حرم الله.
فهذه صفة هؤلاء القوم السوء أنهم أضاعوا الصلاة، واتبعوا شهوات أنفسهم مما حرم الله وهم إذ أضاعوا الصلاة فهم لما سواها من الواجبات أضيع لأنها عماد الدين وقوامه وخير أعمال العباد، وأقبلوا على شهوات الدنيا وملاذها، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها فهؤلاء سيلقون غياً، أي خساراً يوم القيامة.
ومعلوم أنه ما من أمة تتمادى في تعاطي الفواحش والشهوات المحرمة إلا كان ذلك إيذاناً بهلاكها، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا» رواه ابن ماجة، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «... ولا ظهرت الفاحشة في قوم قط إلا سلط الله عليهم الموت» رواه الحاكم في المستدرك.
وقد جعل مطرف بن عبدالله بن الشخير -رحمه الله- الغلو في أعمال البر سيئة، والتقصير سيئة، فقال: الحسنة بين سيئتين.
وبهذا يعلم أيضاً ما ينبغي من مدافعة التمادي في السيئات والتساهل باقترافها أو انتشارها في المجتمع واستساغة الناس لها واستمرائهم لوجودها.
فهي أمة مختارة عادلة اختارها الله على سائر الأمم، ولهذا كانت شهادتها على سائر الأمم وكان بذلك فضلها.
وختاماً نسأل الله تعالى ان يوفق ولاة أمرنا لما يحبه ويرضاه وان ينفع بهم الاسلام والمسلمين كما نسأله سبحانه ان يصلح أحوال المسلمين في كل مكان وان يؤلف بين قلوبهم ويجمعهم على الحق وان يجنبهم الفتن ما ظهر منها ومابطن إنه سبحانه سميع مجيب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
|