قل لي ما هي نوعية أسئلتك في الحياة أقول لك ما هي نوعية حياتك هذه، فالحياة هي الأسئلة.. غير أنها ليست كل الأسئلة بل القوي.. المتين.. الجوهري.. العميق منها، الغني بالدلالات والمعاني المتينة والإشارات الجوهرية والمضامين العميقة. فحق لمثل هذه الأسئلة أن تبين أو تفصح عن طبيعة حياة طارحها مثلما أن نقيضها من الأسئلة الهشة.. الساذجة.. البسيطة تدل لا شك على هشاشة وسذاجة وبساطة حياة صاحبها. العفو فما سبق ليس إلا تداعيات اشتققتها من مفهوم وقعت عليه بالصدفة أثناء قراءتي في كتاب لعالم قديم وذلك هو كتاب «الموافقات» للشاطبي، حيث يبدو فيه وهو يحذر القارئ من مغبات (الأسئلة الضعيفة).. ويشدد عليه من الوقوع في أسرها. فللأسئلة الضعيفة ضحايا سماهم الشاطبي «أسارى الأسئلة الضعيفة» وقد عنى الشاطبي بالأسئلة الضعيفة تلك التي تعوزها القدرة على أن تحمل صاحبها لتلج به إلى جوهر ما يبحث عنه، وهي كذلك لكونها أعجز من أن تبادر أو تبادئ أو تستثير وأضعف من أن تغوص أو تجوس أو بالمعنى العامي (لا تهش ولا تنش!).. وعند هذا المنعطف (العامي!) استميح صاحبنا الشاطبي العذر بالقول إن الأسئلة التي (لا تنش!) قوة وعمقاً أوهن من أن (تهش) أجوبة قوية عميقة.. أما الحل طبقاً للشاطبي فيتعين (بشطب!) الأسئلة الضعيفة من سبورة التساؤلات الذاتية في الحياة.
والشاطبي بمفهومه هذا يبدو وكأنه أحد رواد المنظور السوسيولوجي المعروف ب«الفينامنولوجيا»، حيث إنه بتشديده على السائل بتجنب الأسئلة الضعيفة يشدد ضمنياً على المجيب بتحاشي الأجوبة الضعيفة أيضاً، كذلك يبدو وهو يطالب القارئ بأن يضع ما يريد التساؤل عنه (بين قوسين) تماما كما هي منهجية المنظور المذكور. ووضع الشيء «بين قوسين» بوصفه يمثل أحد مفاهيم مدرسة الفينامنولوجيا كناية عن أهمية الإقرار بأن مساحات البحث عن الحقيقة لا تقع بالضرورة ضمن ما تراه بل قد تقع أبعد من ذلك. كما أن الحقيقة ليست دائماً هي ما تشعر به بل قد تكون هي ما لا تشعر به.. إذن فالوصول إليها يتطلب منك صرف النظر عما تراه بحثاً في آفاق وسراديب ما لا تراه.. وتجاوز ما تشعر به تنقيبا في عوالم ما لم تشعر به.. وكل ذلك يتطلب منك وضع ما علمته أو عملته في عالمك (بين قوسين).. كناية عن عدم التأثر به في مشوار سعيك للحقيقة، فعليك تحييد مشاعرك وتجاهل رؤيتك وتقنين رؤاك وعدم تلويث إجابتك بأحاسيسك الفردية. كذلك فوضعك لما تعلمه (بين قوسين) يعني باللغة المفاهيمية العلمية للمنهج المذكور (تعليقك للحكم).. أي ايقافك لاستصداره على الأقل إلى حين أن تكون قد استجليت الأجوبة الجلية عن طريق استحلاب الأسئلة العميقة.. إن طرح الأسئلة هنا عملية صرف نظر عن المتجلي بحثاً عن كوامن وأسباب تجليه بمعنى آخر بدلاً من طرح أسئلة محورها شعورك أنت اطرح الأسئلة لتتبين شعور (شعورك) ذاته..
|