العراق الآن كتاجر طموح يجلس في المستشفى مع أهله ومحبيه منتظراً متى يدخلونه إلى صالة العمليات الجراحية لإجراء عملية اختلف في نسبة نجاحها جمهرة الأطباء. وفيما يقلقه دخول وخروج المرضى والأصحاء يحس أن البدلة القصيرة الخضراء التي ألبسوها إياه وهي مفتوحة من الخلف وتبعث على التندر، قد تتحول بعد ساعات إلى اللون الأبيض وهي الشيء الوحيد الذي سيأخذه معه إلى القبر بعد صبر موجع طال أكثر من ثلاثين سنة.
ويرتفع ضغط الدم بشرايينه الآن من ضجيج علامات الاستفهام و التعجب في رأسه ومداهماتها الواخزة. فالصحف التي وصل عددها إلى اكثر من 160 صحيفة تتوزع عليها الحقائق المرة والأكاذيب الحلوة:فبعضها يتوعد خصوماً و أعداء مفترضين وتقليديين حفظهم العراقي والعربي حتى مَلَّ ذكرهم وهم لا يتعدون بكل الأحوال الأمريكان والصهاينة والطائفية وزبانية صدام والحاقدين وربما عدد كبير من المجرمين ذوي النوازع العدوانية المتأصلة في نفسهم الذين أطلقهم صدام _ بمكرمة تاريخية - قبل الحرب: وتمتلئ الصفحات الأولى لتلك الجرائد بعناوين كبيرة ملونة مكتوبة بحرفية صحفية اغلبها ساذج هدفها مداعبة العواطف والجيوب على حد سواء. ولا تنسى الصحيفة أن تكتب اسم رئيس التحرير النكرة غالباً تحت العنوان وتليه عبارة صحيفة يومية - أسبوعية - سياسية - عامة - مستقلة. ولا تدري ماذا يقصدون بالمستقلة. إذ كلما شاعت كلمة _ على وفق علم اللغة والاجتماع - فقدت معناها الدقيق ودخلت في دوامة المصطلحات الشعبية التي تحتمل النقاش حولها دهوراً كمفهومي التخيير والتسيير عند المسلمين.
وما يقلق صاحبنا التاجر أن لا أحد سيبقى معه في المستشفى بعد المغرب، فالجميع عليهم أن يأووا إلى بيوتهم وقد يحتاج إلى قنينة دم أو دواء مفقود في المستشفى حيث لا صيدلية خاصة تبقى مفتوحة في وحشة الشارع، ولا أحد يجازف بالمجيء للتبرع بالدم إذ إن ليل بغداد مطبق تكمن في زواياه الخبايا مترصدة المارة أو السيارة الحديثة الثمينة لدى تجار التهريب والتفكيك السريع. فمن الممكن أن يشعر السائق بحرارة فوهة المسدس في صدغه يطلب بهمس - اترك السيارة وترجل. أو يهجم عليه عدد من الشبان العاطلين بمختلف أنواع الأسلحة ليسلبونه آخر ما تبقى في جيبه ليعود حامداً الله على سلامته مع أن المال والحياة متساويان في مفهوم اقتصاد السوق المندفع ماراثونياً في الحياة العراقية العامة والخاصة.
ومما يزيد الحيرة هو تزايد عدد الأحزاب والروابط والأطياف السياسية التي تتكاثر بالانشطار أو بالولادة الطبيعية أو القيصرية أو بالأنابيب حتى وصل عددها إلى أكثر من 85 حزباً أو تشكيلاً وقد يتشكل الحزب ويبقى زماناً لا يعلن عن نفسه بسبب عدم وجود اسم يناسب الأهداف فكلما توصلوا إلى اسم وجدوا أن حزباً سبقهم إليه بيوم واحد وملأ جدران البيوت والمؤسسات الرسمية وبقايا جداريات صور الرئيس المخلوع بشعارات ومطاليب تبدأ ب(نريد) من مجلس الحكم أو قوات التحالف أو من الحكومة المقبلة. . مع أنهم يرفضون الجميع بثوابتهم المختلفة.
وكلما تأخر أحد أفراد العائلة عن موعده في الإياب إلى بيته زاد قلق العائلة عليه، فعمليات المقاومة العسكرية التي تتصدى لقوات التحالف قنصاً أو تفجيراً مباشراً أو بالألغام تواجهها القوات بالرد العشوائي مما يسقط عدداً من القتلى ومن جميع الأعمار والأجناس.لكن الذي يخلط حابل الأفكار بنابلها هو الإبهام السياسي الرائج في قنوات الأعلام والمقاهي والمؤتمرات والتصريحات إذ إن الجميع يعرف ان مجلس الحكم هو مؤقت يهيئ للحكومة الجديدة بعد إقرار الدستور ومن ثم الانتخابات لكن رغم هذه المعرفة فالمطلوب وبدون تأخير الإجابة عما هو شكل الحكومة التي ستقوم وما خطوطها وملامحها العامة والخاصة وهذا إلحاح مبعثه أن كل عراقي يريد من الحكومة أن تعيد له حقوقه وعمره الضائع وفرصته المسروقة وأمواله المسلوبة وابنه المعدوم أو المفقود وتضمن له مستقبله وتحقق له الأمن والأمان بلا تناحرات وتجعل بغداد مثل (ستوكهولم) والعراقي أغنى من الياباني والمحافظات العراقية كالولايات المتآخية الأمريكية.إلا أن عملية صاحبنا التاجر قد تؤجل ريثما يستقر وضعه النفسي المتوتر بسبب أفواج العاطلين عن العمل الذين لم تقل نسبتهم قبل الحرب عن 50 بالمائة فكيف إذا أضفنا لهم ما تمخض عنه زوال النظام حين تسرحت الإمبراطورية المسلحة بقوتها العسكرية وقوى الأمن الداخلي والخارجي وما بينهما من اللجنة الأولمبية وخراطيمها وكذلك إمبراطورية وزارة الإعلام وبقية التشكيلات غير المرتبطة بوزارة التي لا يعلم بجذورها و امتداداتها سوى الباقين خارج قبضة العدالة من المطلوبين بقوائم عديدة.
وكيف سيتمكن المواطن أو التاجر من دخول المصرف والخروج منه محاطاً بالعيون المحدقة التي قد تخزن خططاً محكمة للاستيلاء على ما تم سحبه من المصرف، فإذا سلم من ذلك كله فكيف سيسلم من ارتفاع سعر صرف الدولار صباحاً وانخفاضه مساءً وكم تحتوي رزم الأوراق النقدية التي يحملها من أوراق مزورة وكيف سيتعرف عليها وقد تعددت علامات المزور والحقيقي واختلطت. وبعضهم أثنى على إجراء صدام حسين حين منع العراقيين بجميع شرائحهم من اقتناء جهاز (الستلايت) واكتفى بقنواته المحلية الثلاث فهذا الجهاز ينقل أحداث العالم ويضعها في أحضان العائلة العراقية بعد أن تعودت خلال عقود على نمطيات صورية ومعرفية منتقاة تخفف الصدمات وتظهر العراق كوكباً درياً متميزاً على الشعب أن يرقص اعتزازاً و فخراً و تفاخراً على غيره من شعوب الأرض التي لا تعرف السعادة ولا الاستقرار. واليوم تلهث قنوات الجزيرة والعربية والمنار وغيرها خلف دوريات الأمريكان وتصور جثث قتلاهم وسياراتهم المحترقة وتتابع المظاهرات فتُظهر العراق في حالة ميئوس من شفائها وفي انتظار رصاصة الرحمة.أما المناقشات الحامية الغريبة الأطوار والتحليلات والاتجاهات المتعاكسة والمتناطحة التي يدلي بها العارفون ببواطن الأمور من مختلف دول العالم وهم يجلسون في المقاهي فإنها ما زالت تنسف الأرصفة الفكرية والسلوكية (الستراتيجية والتكتيكية) في العقلية العراقية المستكينة والمتآلفة الراضية بالقدر والمكتوب.فهي إذن ساحة شكوك وتساؤلات واتهامات. . وكل واحد يجلس على محيط الدائرة في انتظار مبادرة صاحبه لكي ينبري بالتصفيق له والإشادة بموقفه ويعِده بمشاركته في المستقبل القريب إن شاء الله.
(*)كاتب وصحفي عراقي
|