وكما في الليلة الظلماء يفتقد البدر فإننا في ذكرى اليوم الوطني وسط هذه الأجواء الخارجية والداخلية المشحونة بالاحتمالات والأنواء لا بد ان نتذكر ذلك الرجل الشجاع الذي تجرأ مع أهالي شبه الجزيرة العربية من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها على إعلان قيام كيان وطني موحد على أساس من الوحدة السياسية على الرغم من التباعد والتنوع الجغرافي والحضاري وعلى الرغم من الأخطار الخارجية المحدثة حينها والتي كانت تهدد المنطقة العربية كلها بالتقسيم وإعادة الترسيم.
هذه الوحدة الوطنية التي وحدها الملك عبدالعزيز وتطورت خلال ما يزيد على نصف قرن بمجهودات سياسية واقتصادية وتعليمية كبيرة لتصبح لحمة اجتماعية وروحية تتمثل في دولة مستقلة وشعب يحرص على استقلالها ويتمسك بوحدته فيها هي ما يواجهنا اليوم بمسؤوليات ليست سهلة لأن نتخذ الأسباب التي تحافظ على هذا الإنجاز الوطني وتعاضدنا على اجتياز تحديات المرحلة. إلى هنا ونصف كلامي هذا لا يختلف كثيرا عن الكلام المعتاد الذي كان يكرره البعض منا برتابة أو طمأنينة مطلقة في وسائل الإعلام كل عام بمناسبة اليوم الوطني. غير ان الليلة لا تشبه البارحة ولا بد أننا ندرك كتاباً وقراء، حكاماً ومحكومين ان مراجعة مسيرتنا الوطنية ومواجهة الأخطار الداخلية والخارجية المحدثة التي تتهددنا جميعا تتطلب منا أكثر من مجرد الاكتفاء بتعداد المنجزات وهي ماثلة أمامنا ومحط اهتمامنا واعتزازنا إذا أردنا ان نطور عملاً لا قولاً وحسب ما كافح في بنائه الآباء والأمهات والأجداد من لحظة قيام المملكة العربية السعودية كياناً سياسياً وجغرافياً واجتماعياً موحداً ودولة مستقلة ذات ثقل بشري وحضاري في المجتمع الدولي وذات تفاعل مع قضايا العالم العادلة في الحرب والسلم.
ومن يراجع بشيء من الموضوعية تاريخ البلاد ليس فقط منذ إعلان تأسيس المملكة العربية السعودية عام 1932م وأيضا منذ ان حصل الملك عبدالعزيز على بيعة أهالي الرياض مطلع القرن الماضي عام 1902م إلى يومنا هذا يستطيع ان يتحقق من اننا لم نكن وطنا ولد بملعقة من ذهب في فمه كما يشاع عادة وخاصة عند من حصروا ويحصرون أهمية هذه البلاد وشعبها في الحقبة النفطية ومن يهمشون تاريخها السياسي والاجتماعي ووزنها الانساني والحضاري ما قبل ارتفاع أسعاره. وإنني في هذا السياق كواحدة من المهتمين بدراسة البنى الاجتماعية بمنهج تحليل مسارات تاريخها الاجتماعي والخطاب أو الخطابات السياسية المصاحبة للحقب المختلفة أو المتقاربة منها أستطيع ان أقول بان أياً من المراحل المتعاقبة للتاريخ الاجتماعي للمملكة العربية السعودية لم يمر بدون تحديات أزعم انها تحديات جسام. كما أزعم انها لم تكن لتمر بسلام لولا نجاح المجتمع السعودي قيادة وشعباً في الحفاظ على نسبة لا بأس بها من الاتفاق الجمعي الضمني أو العلني على إرادة المواجهة.
ونظراً انني أكتب مقالاً وليس دراسة تحتمل الاستفاضة والتحديد الدقيق لخصائص كل مرحلة من مراحل تطور المجتمع السعودي وكل حقبة من حقب حكم أبناء الملك عبدالعزيز ونوع المواجهات والتحديات خلالها وكيفية أو أساليب المواجهة ببعض تعثراتها وبنجاحاتها فإنني سأكتفي في هذه العجالة كما يقال إلى ذكر بعض من سلسلة التحديات التي صاحبت أو توالدت مع ومن حركة تطور التاريخ الاجتماعي للمملكة العربية السعودية. ولو حاولنا الاكتفاء بالإشارة بشكل عام لطبيعة هذه التحديات فاننا نجد ان بالمستطاع تعريفها بانها تحديات ذات طبيعة سياسية واجتماعية من ناحية وتحديات ذات طبيعة تنموية من الناحية الأخرى على عدم إمكانية الفصل القطعي بينهما ومع تأثيراتهما المتبادلة وان اختلفت نسبة التأثير والتأثر بين طبيعة كل منهم. وفي هذا فقد كان تحدي الملك عبدالعزيز في تلك المرحلة تحدياً كبيراً ومركباً تمثلت بعض أوجهه في إقامة كيان موحد لمنطقة شاسعة الأطراف متنوعة المشارب القبلية والمذهبية وخلفية التجارب السياسية وفي نفس الوقت تأسيس دولة بهيكلية حديثة في خضم مجتمع عالمي تعيش علاقاته على خط ساخن من تجاذبات وتنافرات قطبية وبامكانيات اقتصادية كانت جد محدودة وبمجتمع تعاني أجزاء منه من الانغلاق والتقوقع وتعاني أغلبية نسائه ورجاله من الأمية. ومن شواهد ذلك التحدي «ليس فقط موقعة السبلة عام 1927م» كما صار يذكر ذلك كثيرا هذه الأيام وخاصة في التحليلات الفضائية مع إخراجها أحيانا من سياقها في التاريخ الاجتماعي كمفصل من مفاصل التنازع السياسي لتلك المرحلة مما لم يختف تماما بفصل حسمها لصالح توجه الملك عبدالعزيز في إقامة الدولة السعودية، بل ان من الشواهد الهامة أيضا على مواجهة التحديات إقدام الملك عبدالعزيز على إقرار مجلس شوري والشروع في تأسيس مؤسسات حديثة للدولة مع تأهيل هياكلها الإدارية حديثة العهد بخبرات النخب المتعلمة من شتى مناطق المملكة وبالخبرات العربية من دول الجوار، استقبال التقنية الحديثة من برق وبريد والوسائل الأخرى من وسائل اتصال ذلك الزمان، توقيع اتفاقية الامتياز للتنقيب عن النفط بين الحكومة وبين شركة ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا الأمريكية. وما ذكرناه ليس إلا غيض من فيض من تحديات تلك المرحلة ومتغيراتها.
أما فيما تلى ذلك من مراحل التاريخ الاجتماعي للمجتمع السعودي فقد كان كما قدمنا لكل حقبة لاحقة تحدياتها فمن تحدي توطين البادية و«تمدين» المجتمع إلى تحدي ربط المناطق ببعضها البعض وبكيان الدولة الوليدة على أساس المواطنة وليس على أسس انتمائية أخرى، ومن تحدي تعميم التعليم العام للذكور إلى تحدي تعليم وعمل النساء ومن تحدي رفع أسعار البترول إلى تحديات الطفرة التي ترتبت عليه وبناء البنية التحتية للمجتمع وتعميم القطاع العام للخدمات الأساسية على المواطنين، ومن تحدي تملك شركة أرامكو للنفط بالكامل بشراء معظم أصولها عام 1980م إلى تأسيس شركة الزيت العربية السعودية عام 1988م، ومن تحدي حادثة الحرم المكي الشريف مطلع عام 1400ه إلى تحدي حرب الخليج 1990/91م وما جاء على إثرها من مراجعة سياسية تمخضت عنها وضع الصيغة الحالية للنظام الأساسي للحكم وإعادة العمل بنظام الشورى الذي كان معلقاً على مدى عدة عقود. وإذا كنا نكتفي بهذه اللمحة الخاطفة في استذكار بعض تحديات الماضي وانتصار لحمة الوحدة الوطنية في كل منها فإننا نجد ان من المجدي والواجب التوقف عند بعض الكيفيات التي يمكن ان نواجه بها تحديات الحاضر مع وضع تجارب الكيفيات والآليات السابقة في مواجهة تحديات الماضي نصب أعيننا لنكرس الناجح منها ونطوره ولنتجنب بعض الكبوات.
وباختصار قد يكون مخلاً أن نقتصر هنا على طرح بعض المقترحات فيما يخص بعض «التحديات الاجتماعية» فقط دون ذكر التحديات السياسية والاقتصادية والثقافية التي نواجهها اليوم على أن نعود ربما لها ولمقترحات الحل في مقال آخر مما لا يتسع له هذا الحيز. ومن تلك التحديات «الاجتماعية» التي نحن في حاجة ملحة للتحاور فيها وحولها وإيجاد حلول عاجلة وطويلة الأمد لها التالي:
لا زلنا نعاني كمجتمع من بعض الآثار الجانبية السالبة للطفرة النفطية بين منتصف السبعينات الميلادية ومطلع الثمانينات وأعقدها الاعتمادية المطلقة على الدولة وحدها في إعالة المواطن من قروض الزواج إلى إدارة الأزمات الداخلية والخارجية وهذا واحد من التحديات التي لا يمكن مواجهته الا بالدربة على تقاسم المسؤوليات. ومن ذلك الإقرار بضرورة قيام مؤسسات المجتمع المدني التي تعاضد مؤسسات الدولة في تلبية الحاجات كالجمعيات واللجان المهنية والنوادي الثقافية والهيئات الاجتماعية والاقتصادية والمجالس الأهلية لتوسيع قاعدة العمل المشترك من أجل الوطن في وضح النهار وليس في جنح الليل وبما يمثل جميع الفئات ويشيع خبرة التسامح والحوار والمشاركة في اتخاذ القرار عوضا عن الميل إلى أسلوب الاتكالية والتطنيش أو «التكويش».
ان من التحديات التي يجب ان نواجهها قبل ان تتحول حالتها إلى تفاقمات لا قبل لنا بتلافيها هو ان أقرب موعد طبي يريد ان يحصل عليه المواطن من مستشفى حكومي حتى في حالات مستفحلة لا يقل عن عدة أسابيع ان لم يكن عدة أشهر وهذا ليس الا على سبيل المثال. ناهيك عن المدارس الرثة في القرى وفصول التعليم النظامي المكتظة في المدن. وهذا يدق جرس ضرورة إصلاح نظام الخدمات العامة دون ان تكن الأفضلية فيها لأصحاب الوساطات. فلا نسمح بأن يطغى حس المواطن بالغبن على حس الانتماء حين تكون هناك الضمانات الحقوقية للمساواة في السراء والضراء.
تعاني الوظائف الحكومية بشكل عام من تعطيل شديد لنظام التقييم والمحاسبة فالمواطن الذي يعمل بجد وضمير وإخلاص أو حتى المجدد والمبتكر في عمله والآخر الذي لا يهمه من العمل إلا قبض الراتب في نهاية كل شهر سيان. هذا مع تحاشينا عمدا لذكر بعض المثالب الإدارية والوظيفية الأخرى التي تشيع فيها كما يتناقل الناس. وهذا التحدي لا بد من أخذ الأسباب لمواجهته وأحدها العمل بأنظمة الرقابة والمحاسبة والعقاب والثواب في ظل الاحتكام للوائح وأنظمة واضحة يبين في ضوئها ما على صاحب الشأن وما له. ودور المؤسسات المختصة كديوان المراقبة العامة ووزارة الخدمة المدنية هام في مثل هذا المجال.
مثلنا مثل مجتمعات الأرض نعاني اليوم من حالة خطيرة اسمها البطالة بين الشباب والشابات ودون ان نشير للانحرافات الجنائية والسياسية والخلقية التي يمكن ان تنتج عن البطالة والآثار الاجتماعية والنفسية الحادة التي قد تترتب عليها مما تعرفه المجتمعات التي تهاونت في علاج تلك المشكلة فإننا نقول انه وريثما يتم مواجهة هذا التحدي بحلول جذرية تربطها بالعمل المنتج وبعجلة اقتصاد وطني متنوع فانه لا بد من إيجاد نظام عاجل بتقديم إعانة مالية شهرية للعاطلين والعاطلات عن العمل.
يعجز المجتمع أحيانا عن مواجهة بعض الإشكاليات بسبب عدم وضوح محدداتها أو الجهل بها أو عدم وجود جهات محددة تلزم بتطبيقها مثل «الإساءة للأطفال» أو ضياع حقوق الأبناء المادية والأدبية للمطلقين من الآباء والأمهات، أو التهاون في حقوق المعاق، أو التعرض لجور جهة من الجهات.وهذا التحدي لا يمكن مواجهته بدون دعم الدولة والمجتمع معا للنظم والحقوق الشرعية في مثل هذه القضايا وسواها مما يخص الحقوق الأسرية والإنسانية المقرة شرعا. كما انه يتعذر حلها دون تعليم الصغار والكبار الوعي الحقوقي الشرعي وتمكينهم منها.
هذا ولله الأمر من قبل ومن بعد.
|