كان الحديث في الاسبوع الماضي عن هيمنة الدول المتقدمة صناعياً على منظمة التجارة العالمية وتسييرها بما يخدم مصالح هذه الدول والكيل بمكيالين لتحقيق هذا الهدف الامر الذي ولّد قدراً كبيراً من المعارضة لتوجهات المنظمة ورأى فيها البعض بعثاً للاستعمار بكل ما يحمله من سلبيات والتي من أبرزها توفير مواد أولية وخامات رخيصة الثمن للدول الصناعية وفتح الأسواق أمام صادراتها.
تقوم منظمة التجارة العالمية على خلفية فلسفية بسيطة مؤداها أن تحرير التجارة الدولية من الحواجز والقيود يؤدي الى مكاسب لجميع دول العالم وزيادة قدرة المجتمع الانتاجية من السلع والخدمات، وبالتالي تحسين مستوى معيشة المجتمع العالمي ككل. وهذا وان كان سليماً من الناحية النظرية إلا ان ذلك ليس كافياً لتحققه على ارض الواقع، وفي حال تحققه كيف سيتم توزيع هذه المكاسب بين دول العالم، وهل سيكون الجميع مستفيدين أم ان هناك خاسرين؟
وفي هذا الاطار توضح دراسة أجريت عن المكاسب المتحققة من تطبيق بنود جولة الأورجواي والتي هي خطوة سابقة لإنشاء المنظمة ان اجمالي المكاسب المتحققة في مستوى المعيشة على مستوى العالم بلغ 64 ،170 مليار دولار استحوذت الدول المتقدمة صناعياً على 64 ،103 مليار دولار بنسبة قدرها 74 ،60% وحصلت بقية دول العالم على المتبقي وعلى سبيل المثال بلغت استفادة دول الاتحاد الأوروبي 50 مليار دولار، بينما كانت استفادة منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا 5 ،1 مليار فقط.
لاشك ان مثل هذا النمط في توزيع المكاسب يعزز مشكلة الفقر ويسهم في تفاقم حدته، فالقضية نسبية هنا، فليس الامر مجرد وجود تحسن في مستوى المعيشة، بل ما حجم هذا التحسن مقارنة بما يحدث في اماكن اخرى من العالم. اضافة الى ذلك، فإن عدم التوزيع المناسب للمكاسب المتحققة من تحرير التجارة الدولية يوسع الفجوة بين الشمال والجنوب او بين الاغنياء والفقراء، ويعمل على تركيز الثروات في أيدي شركات وافراد محدودي العدد.
ولاشك ان هذا النمط من توزيع المكاسب يكرس تبعية الدول النامية للدول الصناعية ويقضي على مقومات الخروج من دائرة الفقر والتخلف وهذا السلوك ليس بجديد، بل انه يستمد جذوره من الفترة الاستعمارية الصريحة والضمنية وهذا ما يجعل المعارضة تتزايد باستمرار لمنظمة التجارة العالمية والتي يقول عنها البعض انها تؤسس لقيام نظام تجاري عالمي مبني على المزايا النسبية في القدرة على الالزام بالأخذ بحواجز تجارية وفنية غير تقليدية ومن الطبيعي ان يكون من يملك المزايا النسبية والحالة هذه الدولة الصناعية.
فهي تتفنن في ابتكار اشتراطات يلزم بأخذها في الاعتبار المصدرون من الدول النامية والدول الصناعية تحت مسميات متعددة تجيزها المنظمة، بل وتشترط الالتزام بها مثل حقوق الملكية، والمحافظة على حقوق العمال، والحفاظ على البيئة الى غير ذلك من المسميات التي هي في ظاهرها حق لكن المقصود بها حقيقة غير ذلك. والاشكال ان هذه الاشتراطات هي مطبقة فعلا في الدول المتقدمة فلا اعباء اضافية ستتحملها وسيكون الالتزام بها مكلفاً جداً للدول النامية. وحقيقة ما يراد من هذه الاشتراطات هو ايجاد معايير غير تقليدية للتمييز ضد صادرات الدول النامية وتوفير اساليب حمائية تمتلك الدول الصناعية مزية نسبية فيها.
|