Monday 22nd september,2003 11316العدد الأثنين 25 ,رجب 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

في العزلة في العزلة
د. موسى بن عيسى العويس
الإدارة العامة للتربية والتعليم بمنطقة الرياض

قد يخالفني كثيرٌ من الناس حينما أقول: إن الإنسان بطبعه وفطرته شديد الولع باكتشاف مجاهل النفس وخفاياها، قبل أن يكتشف مجاهل الأرض وأجرام الفضاء . هذا الاختلاف يعلل بأن الإنسان كلما زاد استبصاراً وتأملاً في سلوك المجتمع البشري وخباياه، زاد ذلك من حيرته، وقلقه، واضطرابه، وأحاطت به جملة من الهواجس، واستبدت به كثير من الهموم والوساوس التي هو في واقع الأمر في غنىً عنها، إذ ربما كان بحثها من دواعي جلب العداوة والبغضاء، وإثارة فضول الناس عليك. وربما كان (المتنبي) أكثر سبراً للطباع، وأعمق رؤية للحياة، حين قال في أهل زمانه، بعد أن ضنوا عليه بما يشتهي، وحرموه مما يطلب:


ومن عرف الأيام معرفتي بها
وبالناس روّى رمحه غير راغب

وكثيرٌ هم أولئك النفر من الأدباء خاصة حملهم التفكير في سلوك النفس البشرية إلى الاعتزال عن الناس والاختلاط بهم، و قادهم إلى الابتعاد عن قضاياهم وشؤونهم، ودفعهم إلى تحاشي مشاكلهم، التي تتعدد فيها أهواءهم وشهواتهم، وتتضارب فيها منافعهم ومصالحهم، وتتصارع عليها نزعاتهم وميولهم، فما كان أمام هذه الفئة الكريمة سوى النأي عنهم، حينما رأت مخالطتهم ملهاة ومشغلة، بل ربما كانت مورثة - في بعض وجوهها - لسوء الظن بالأخيار، ممتثلين لقول الشاعر:


وفي الأرض منأىً للكريم عن الأذى
وفيها لمن خاف القلى متعزّل
لعمرك مافي الأرض ضيقٌ على امرىءٍ
سرى راهباً أو راغباً وهو يعقل

وإذا كانت الحكمة - كما يقال - عشرة أجزاء، تسعة منها في الصمت والعاشرة في عزلة الناس فقد حفلت كتب السير والتراجم التاريخية بنماذج من الأعلام، ماضياً وحاضراً آثروا الانكفاء على ذواتهم، لكي يمنحوها مجالاً أكبر، ومساحةً أوسع للتأمل والتدبر والتفكر في عوالم النفس ودهاليزها، فجرهم هذا السلوك الذي يلفه التشاؤم أحياناً إلى قطع الأواصر والصلات التي كانوا يرون حياة الرغوة والزبد، لا الصريح منها هي رابطهم الوحيد. ويأتي (أبو العلاء المعري) على رأس أصحاب هذه الفلسفة التي عبَّر عنها بقوله:


جربت دهري وأهليه فما تركت
لي التجارب في ود امرىء غرضا

وما أكثر تلك الشوارد الشعرية والحكم المنطقية أحياناً، التي تدفع الإنسان إلى الشك والريبة، والحذر، والانسحاب من الواقع، والزج به إلى كهوف العزلة واليأس والبؤس والاغتراب، فالاستكثار من الإخوان وسيلة من وسائل الهجران، و لعل أقرب هذه الشواهد لامية (الطغرائي) الشهيرة، التي أنشأها بعد تفكير طويل في علاقات الناس، وتردد كثير في دراسة سلوكهم، وعراك نفسي قوي مع حياة الناس، بمختلف مظاهرها، بعد أن ساءت نظرته إليها، وإن كنا نرى في طيات قصيدته شيئاً من المبالغة، وملامح من النشوز والتطرف في الفكر الاجتماعي للإنسان، والذي لا أدري كيف سيتعايش الناس فيما لو سلموا بها واستمرؤوها، واتخذوها نهجاً وأسلوباً في تعاملهم مع بعض يقول:


أعدى عدوك أدنى من وثقت به
فحاذر الناس واصحبهم على دخل
فإنما رجل الدنيا وواحدها
من لا يعوّ ل في الدنيا على رجل
وحسن ظنك بالأيام معجزة
فظن شراً وكن منها على وجل
غاض الوفاء، وغاض القدر وانفرجت
مسافة الخلف بين القول والعمل
ويا خبيراً على الأسرار مطلعاً
اصمت ففي الصمت منجاة من الزلل

ورغم ذلك، تبقى العزلة - على قسوتها وشدة وطأتها - راحة للعقل من التفكير، وراحة للنفس من التأنيب، وراحة للجسد من المتاعب، وبخاصة متى اختارها الإنسان بحكمة واعتدال، وارتضاها سلوكاً غير دائم، ونهجاً غير ثابت، يستعين بها على الفكرة، ويتفرغ لاستخراج الحكمة، ذلك أن النفس بهدوئها وسموها واستقرارها خليقة لأن ينبثق منها نور الحكمة، والحقيقة،والحب، والجمال . في العزلة عفاف للنفس، وسترٌ للفاقة، وكشفٌ لجلباب التجمل الذي يعد من شيم الأحرار، وشمائل ذوي الهمم. وكم كان اعتزال المجتمع كذلك فرصة سانحة يحاسب الإنسان المتفرد فيها مخادن نفسه، ويضعها أمام الضمير بتأنٍ وهدوء وروية، والإنسان، ولا سيما المسلم حقيق أن يكون له مجالس يخلو فيها، فيذكر عظائم ذنوبه، طالباً المعونة والستر من خالقه، ولا شك أن معرفة الإنسان لنفسه تبدو غير ممكنة في خضم هذا المجتمع المضطرب، وما يدور فيه من بشاعات وتقلبات نحس بإيقاعاتها يوماً بعد يوم، وتحيط بنا مخاطرها بين لحظة وأخرى.
- العزلة - وفق هذا المنظور - داء لمن لايجد في نفسه ما يغنيه عن معاشرة الآخرين والاندماج في حياتهم على ما فيها من أوشاب وأوضار، ودواء في الوقت نفسه لمن سئم ملاذ المجتمع وملاهيه، وما يكتنفه من شرور وموبقات، فمن خلالها يتخلص من أثقاله المادية، وينطلق من أغلاله الاجتماعية، ويسلم من النظر إلى زينة الدنيا وبهارجها، فالانعزال يخلع عن الإنسان أحياناً ربقة ذل الآمال، ويقطع عنه رق الاطماع. وما أجمل ما قاله الشاعر في هذا المعنى:


كلانا غنيٌ عن أخيه حياته
ونحن إذا متنا أشد تغانيا

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved