تزخر المكتبات العربية بعناوين نقد الآخر عبر خطاب يتراوح بين نقد متوازن منهجياً مقبول موضوعياً وهو قليل.. ونقد اتهامي يجلد في فكر وقناعات وسلوكيات الآخر كيفما اتفق ويبرأ الذات وهو الغالب، وبينهما نقد يتأرجح بين هذا وذاك.
الملاحظ في أغلب هذه النقودات العربية، على اختلاف مشاربها الايديولوجية أنها تنتقد الصورة المفترضة والرمز المتخيل في الآخر بغض النظر عن واقع حال الرمز، مثل: غرب، حداثة، علمانية، ليبرالية، اشتراكية، إمبريالية، صهيونية، ماسونية.. الخ
ومصطلحات أخرى جديدة كالعولمة وما بعد الحداثة ونهاية التاريخ وصراع الحضارات.. الخ، ولا غبار على عملية النقد الحاد لهذه الرموز أو المصطلحات، بل إن بعضها ينبغي إعلان المواجهة ضدها، وليس النقد الحاد فقط، كالصهيونية ومشروعها الدموي في منطقتنا.. إنما الاعتراض هو على الفهم الصوري لهذه الرموز الاصطلاحية عند نقدها دون استيعاب مدلولاتها وآراء المدافعين عنها، مما جعل البعض يضع كثيراً منها بسلة واحدة وكأنها ذات مدلول متشابه، واعتراض آخر هو على توجيه هذا الخطاب النقدي الى الداخل - الذات - وعدم مخاطبة الخصوم أو المختلفين أو توجيه رسائل النقد إليهم.. مثلاً، يمكننا تلمس الفرق الهائل لعملية النقد الإيجابي وطلب محاكمة شارون على خلفية مذبحة صبرا وشاتيلا من قبل بعض الفلسطينيين في بلجيكا مقابل الإكثار من شتم الخصوم داخل إعلامنا العربي.
فإذا كنا نشتكي من أن صورتنا عرباً ومسلمين لدى الغرب، خاصة الأمريكان، مقولبة بإطار يضعنا ككتلة واحدة من شعوب متخلفة وأصحاب فكر يشجع على الإرهاب، فإننا أيضا نحمل صوراً جاهزة عن الآخرين بكل تعدد مشاربهم واختلافاتهم، وقد يبدو المشهد النقدي متكافئ الخطل بيننا وبين الغرب تحديداً، ولكننا في حاجة إلى أن يفهمونا أكثر من حاجتهم لفهمنا بحكم تفوقهم.
صور الغرب وأفكاره رسمت لنا بطريقة مشوهة في كثير من الحالات، فغالبية المفكرين ترجموا أو فسروا لنا تلك الصور بطريقة أقل ما يقال عنها انها مبتسرة أو منحازة لأهوائهم.. وتبعهم بذلك كتاب ومثقفون دون أن يقرؤوا النصوص الغربية ذاتها.. فهناك المثقف اليساري الذي قد يمجِّد آراء ماركس ويلعن هيجل وكانت ونيتشه وماكس فيببر دون أن يقرأ نصاً واحداً لهم.. وهناك الإسلاموي الذي يشتمهم جميعاً دون أن يعرف ما قالوه. أو كما قال «الحمودي» يعتبرون أفكار هيجل مجرد هلوسات. إنه شتم لرمز الآخر المختلف والمتفوق.. لأنه يبدو أن التفاعل مع المتفوق يُخشى منه أن يكون تفاعلاً انهزاميا..
ولا بد في أدنى الحالات من التوجس بالآخر، فالمتفوق يعرف أشياء نجهلها.. والامام علي بن أبي طالب قال: الناس أعداء ما جهلوا.. الحالة هنا هي رفض شامل يبدأ وينتهي بالمصطلح أو الرمز أو الصورة. عداء للظاهري من المصطلح دون إدراك السياق التاريخي والحضاري الذي ظهر منه، ودون اهتمام بمحتواه الفلسفي والفكري وإمكانية فرز المفيد والضار بين أفكار أمم تطورت وتقدمت أو محاورة الحجة بالحجة..
مثلاً، في بداية التسعينات راجت في الغرب نظرية فرانسيس فوكوياما حول مقولة «نهاية التاريخ» وانتصار النموذج الغربي بديموقراطيته الليبرالية، وقابلها المفكرون العرب باستهزاء بالغ وناقشوا مفردات المصطلح «نهاية التاريخ» دون مناقشة تفاصيل الفكرة ذاتها ومسوغاتها وفلسفتها وتنويعاتها.. بل روَّج كثير من المفكرين العرب بأن فوكوياما مجرد راعي بقر أمريكي مسكون بأفلام الهوليوود متهكمين بأصوله اليابانية، رغم كونه أستاذ دكتور لفلسفة التاريخ وأحد أهم المفكرين في عقد التسعينات، ومن يقرأ نظرية فوكوياما، فإنه سيجد أن فكرته لها مسوغاتها وبراهينها وأسسها الفكرية الهيجيلة الماركسية (أي النشوء التطوري للمؤسسات السياسية والاقتصادية) التي ينبغي لمن يريد نقدها ان يعرفها ويناقشها بطريقة جادة وليس تسفيهها بطريقة شوارعية.
الغريب ان هناك مفكرين عرباً وإسلاميين يجمعون بين نظرية نهاية التاريخ ونظرية هونتجتون عن «صراع الحضارات» كفكرتين متشابهتين رغم تعارض النظريتين جملة وتفصيلا.. ويجمعون بين الأخيرة والعولمةرغم تناقضهما الحاد أيضاً.. وفي نفس السياق تجد غالبيتنا تضع المحافظين الجدد (أمثال هنتجتون) مع الليبراليين الأمريكان (أمثال فوكوياما).. انها صورة الغربي النمطية كما رسمها لنا غالبية المثقفين العرب والمحافظون الجدد (جيل الصحوة).. نراهم أمماً بلا أخلاق ولا قيم.. نهابين لثروات الآخرين.. فكما كان يقال في الثمانينات ان الاتحاد السوفيتي وأمريكا يتأمران علينا لكي ينهبا خيراتنا، وأن قناعاتهما ومصالحهما واحدة ضدنا.. بعد ذلك تحسرنا على عدم استفادتنا من تناقضات السوفيت والأمريكان.. ووقوف السوفييت معنا (لمصالحهم طبعاً).
في تقديري أن القاعدة الأساسية لفهم أمة من الأمم هو معرفة مبادئها وقيمها التي تعلنها وقناعاتها التي تتبناها باعتبارها تمثل التشريع الأخلاقي والقانوني لأوضاعها وحماية مصالحها وطموحاتها.. إضافة لفهم التطبيقات الواقعية لهذه القيم باعتبارها الاختبار الحقيقي لهذه الأمم، ومن هذا المنطلق، إن كان به شيء من الصحة، ينبغي أن نفهم التيارات الفكرية الغربية وأسسها التاريخية ومراحل تطوراتها، وهذا ما لم نفعله في غالب الأحوال مكتفين بالحوار الشاتم للمصطلح... نحن، غالبا، نعادي المصطلح والرمز دون تفكير بمحتويهما!!
|