ينتمي معالي الصديق الدكتور علي بن ناصر الغفيص، إلى شريحةٍ خاصةٍ من البشر، تلتقي به فلا تملُّ له حضُوراً ولا حديثاً، بل يهِبُك أكثر من سببٍ للإعجاب به، ناهيك بمحبته، وقد تشرفت بالتعرف عليه قبل نحو ثلاثة أعوام تقريباً عبر صديق حميم للطرفين، حدثته وحدثني طويلاً أكثر من مرة، فاكتشفت في شخصيته مخزوناً جميلاً من عصامية التكوين، وشافيةالخلق، وبساطة التعامل، وزادني اقتراباً منه وإعجاباً به وجوُد قواسمَ، مشتركة تجمعُنا، أهمها قسوةُ البدايات، وعصاميةُ بناء الذات، ثم الشغف بالعمل، انتماءً وبذلاً وولاءً ، وتلك خصلة ما سكنَتْ وجدان إمرىء، إلا كان التوفيقُ بإذن الله ثالثهما.
***
كتب لي معالي الدكتور الغفيص مؤخراً يشيد بما جاء في (الحلقة الثالثة) من مقالي (خريجو الثانوية العامة.. إلى أين؟) المنشور عبر هذه الزاوية، بتاريخ 23 ربيع الثاني 1424هـ، وكنت قد طرحتُ في ذلك المقال اقتراحاتٍ محددة طمعاً في احتواء مشكلة تنامي ظاهرة خريجي الثانوية العامة، والتقليل من تدفقاتها السلبية، في ضوء عدم قدرة الجامعات المحلية وما في حكمها من المعاهد المتخصصة على استيعابهم، وطالبت بصفة أساسية بتفعيل قطاع التعليم الفني والتدريب المهني ليكون أطول باعاً وأكثر قدرةً على استقطاب الراغبين في هذا النوع من التعليم المتخصص، مؤكداً في الوقت نفسه، أن الباعثَ لهذا الاقتراح ليس الرغبة في استثمار الفائض من خريجي الثانوية العامة فحسب، بل الأمل في تأسيس توجه ايجابي لدى الشاب نحو التعليم الفني المتخصص، مفترضا ان مخرجات هذا القطاع الحيوي هي أكثر ملاءمة لسد جزء كبير من احتياج سوق العمالة المحلية، كماً وكيفاًَ.
وقد كتبتُ رسالة جوابية خاصة الى معالي الدكتور الغفيص، ختمتها بخاطرة لا أجد حرجا في اشراك قراء هذه الزاوية الكرام في الاطلاع عليها، حيث قلت: (.. ان معضلة العمالة الوطنية في بلادنا لا تكمن فقط في غياب القدرة المهنية والمعرفية للأداء ، فنا وآلية The-Know-How لدى جيلنا الحاضر لكن الأهم من ذلك كله، غيابُ «أخلاقيات العمل» واستِشْعار ضوابطه وأوامره ونواهيه، والتكيّف مع بيئاته تكيفاً ايجابياً يجعل الشابَ يرتبط ذهْناً ووجْداناً بالمهمّة المكلَّف بها، ويحرصُ على أدائِها ما استطاع إلى ذلك سبيلا).
***
وقد تمنيتُ على معالي المحافظ في ختام الرسالة بذلَ جهده الحميد هو ومَنْ معه من زملاء الواجب للتعامل مع موضوع (أخلاقيات العمل)، وذلك بإدْراجها ضمن منظومة التدريب الفعلي، يتلقى من خلالها الشاب جرعاتٍ مدروسةً ومقنّنةً من (أخلاقيات العمل) لتكونَ رديفاً لمهنتِه اذا خَرجَ إلى سَاحةِ الحياة، وصراطاً يعبرُه نحو جدية الأداء والاستمرار فيه، بذْلاً والتزاماً وانجازاً!
وبعد..
* فإن ما اعنيه بفكرة ادخال (الجرعات المقنّنة والمدروسة من اخلاقيات العمل ضمن منظومة التدريب) لا يعني بأي حال إضافة عبء جديد من (مواعظ التبشير) بفضيلة العمل، واخلاقياته الى المنهج القائم، يستوعبها الشاب سمعاً، ولا يختزنُها استجابةً وتقديراً وامتثالاً، لكن هناك من الفضائل الدينية و(الحيل) النفسية وإرْثِ الكفاح الذي خلّفه لنا سلفُنا الصَّالح من الآباء وأرجو أن يكون لهذا الجهد، إذا أخِذَ به، مردود ايجابيٌّ يفوق ما تحقّقه مادة (التربية الوطنية) لدى أجهزة التعليم العام التي يبدُو انها قد تحَوّلت في بعض تطبيقاتها إلى مادةٍ للحفظ، سرعَان ما يحيلها الطالب فيما بعد الى (الحفظ) في رفوف النسيان!
* وبمعْنَى آخر، أقولُ إن تأسيسَ (المواقف الايجابية) في وجدان الشاب حيال شأنٍ من شؤون الحياة، وفي مقدمتها (العمل) أخْلاقاً والتزاماً وولاءً، لا يتأتى عَبْر قنوات الوعظ والتلقين المباشِرين، وشحْن الذهن بزَبَد الكلام وزُبْدِهِ، وانما يمكن تحقيقُه عَبْر مسارٍ صعبٍ يمتزج فيه المنْحى (النظري) ب«العملي»، وتباركه القدوةُ والمثلُ والثوابُ!
|