لإدارة الخلاف ضوابط وهو علم أصبح يدرس اليوم، وتمتلئ رفوف المكتبات بالمطبوع والمترجم والقديم والجديد من مصنفاته؛ وهذه رؤوس مسائله: أولاً: الاعتصام بالكتاب والسنة {(وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ) } [الشورى: 10]، {(فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)} [النساء: 59]. أ القرآن الكريم {إنَّ هّذّا القٍرًآنّ يّهًدٌي لٌلَّتٌي هٌيّ أّقًوّمٍ} [الإسراء: 9] . ب السنة النبوية على صاحبها الصلاة والسلام {(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً)} [الأحزاب: 21] . ثانياً: الحوار؛ والحوار لا يكون إلا بين مختلفين، والله سبحانه أمر بالمجادلة بالتي هي أحسن حتى مع أهل الكتاب {(وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) (العنكبوت:46)
حتى المخالف في الأصول يهودياً أو نصرانياً أو بدعياً؛ فإنه يمكن محاورته بل يجب على القادرين محاورته بالتي هي أحسن، والله تعالى ذكر لنا في القرآن الكريم ما دار بين ربنا تبارك وتعالى في خطابه لإبليس: {(قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ) (صّ:75)
(قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) } [ص: 75 76] . وللحوار آداب يجب تعلمها وتلقينها. الحوار بين الجماعات الاسلامية والأحزاب. الحوار بين الدول. الحوار بين الشعوب، ومنح الناس فرصة التعبير عن آرائهم في الهواء الطلق؛ فإنه في الهواء الطلق تموت الأفكار المنحرفة، والشمس تقتل المكروبات، وفي النهاية لا يصح إلا الصحيح. وبالحوار يمكن تحويل المتوحشين والمتشاكسين الى مجتمع هادئ آمن {(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) } [آل عمران: 159]. إن المناظرة الهادئة العلمية من أساليب الوصول الى الحق، والتقريب بين المختلفين والمتنازعين، أما هذه المناظرات التي تعقد في القنوات الفضائية سواء دارت حول قضايا سياسية، أو قضايا عقدية، أو قضايا فكرية أو غيرها؛ فإن منها ما يتصف بالهدوء والليونة، وطول النفس، والواقعية والاعتدال، وهذه الأشياء جيدة إذ تربي على الاستماع، وعلى النظر وتقبل الرأي الآخر، لكن ثمة ألوان من المناظرات يقصد بها حشد الأتباع، وتتميز بكثير من المغالطات والقفز فوق النتائج، وعدم الوصول الى نقاط محددة، وربما يكون ما تأخذه من أوقات الناس، وما تستنزفه من جهودهم الشيء الكثير، اضافة الى أنها تزيد الناس لجاجة وتعصبا وبغضا فيما بينهم، فلا هي تقرب بين المختلفين، ولا هي تكشف باطلاً، ولا تنصر حقاً، وربما يكون قصارها في الغالب أن تكون لوناً من الإثارة الإعلامية؛ التي ينبغي أن ترشد وتضبط وتحول الى قدر من الهدوء والاعتدال. ثالثاً: الشورى؛ وهو مما أمر الله به {فّاعًفٍ عّنًهٍمً وّاسًتّغًفٌرً لّهٍمً وّشّاوٌرًهٍمً فٌي الأّمًرٌ} [آل عمران: 159] {وّأّمًرٍهٍمً شٍورّى" بّيًنّهٍمً} [الشورى: 38]، لقد شاور النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في بدر وفي أحد وفي الخندق وفي غيرها، وإن ترسيخ مبدأ الشورى في الأسرة وفي المدرسة وفي الدولة، ومشاركة الناس في رسم مصيرهم وحاضرهم ومستقبلهم هو من الضرورات التي لا مناص منها اليوم، وعلى الأخص ما يتعلق بالشباب؛ فإن ثمة ضرورة لاحتوائهم والقرب منهم، وتحسس آلامهم والاستماع الى مشكلاتهم، وألا نحملهم على رأينا وعقلنا، وألا نستخف بهم. إن اشعارهم بالأهمية ضرورة قصوى في مثل هذه الظروف، والاستماع اليهم واجب أيضا، واسماعهم الحق مجرداً صريحاً بلا مواربة ولا مجاملة هو من الواجبات أيضاً. رابعاً: تفعيل دائرة المتفق عليه؛ وهذه قاعدة رشيد رضا الشهيرة «قاعدة النار» كان يقول رحمه الله : نتعاون فيما اتفقنا فيه، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه. وهذه الكلمة ربما الكثيرون ينتقدونها ويجلبون حولها، لكن لو نظر اليها الانسان باعتدال وتوازن وتوسط؛ لوجد أنها قاعدة صحيحة. إننا لا نتكلم بالضرورة الآن عن أعدائنا في الأصول، المخالفين لنا في قواعد الشريعة، وإنما نتكلم في داخل دائرة أتباع القرآن وأتباع السنة. وقد أشار ابن تيمية رحمه الله في غير ما موضع الى ان اسلام الكفار حتى لو تحقق على أيدي بعض أهل البدع من الجهمية والمبتدعة وغيرهم؛ أنه خير من بقائهم على الكفر، وأن توبة الفجار حتى لو كان بسبب حديث ضعيف خير من بقائهم على ما كانوا عليه من الفجور، وان الصلاة خلف المبتدع؛ خير من ترك الجماعة. وهذه المسألة مسألة تفعيل دائرة المتفق عليه، تخضع للمصلحة والاجتهاد والنظر وتغير الأحوال، وما أجدر المسلمين اليوم وهم في حال ضعفهم، وتراجع دورهم العالمي، وتسلط أعدائهم عليهم، واحتلال كثير من بلادهم الى العناية بهذه المسألة!. خامساً: تشجيع الاجتهاد، وتوفير المناخ الملائم لخصوبة العقول ونموها وابداعها. إن جو الحرية الشرعية؛ هو المكان الذي تزدهر فيه الأفكار الصحيحة، أما حين يكون على الانسان أن يفكر ألف مرة ومرة قبل ان يقول ما يراه؛ لأنه سوف يواجه تهماً وتشنيعاً وأذى ومصادرة؛ فإن الابداع حينئذ يموت، ونحن الآن نتحدث عن الابداع، لا نتحدث عن الابتداع، هذا الابداع في أمر الدنيا في المسكوت عنه في دائرة المختلف فيه، وأما الابتداع فهو في أمر الدين المحض المنصوص، وما قصة ابن عباس عنا ببعيد لقد جلبه عمر رضي الله عنه وأجلسه مع كبار المهاجرين فاستغربوا ذلك، فسألهم عن سورة الفتح كما ذكر ذلك الإمام أحمد في فضائل الصحابة، فلم يجيبوا بشيء؛ فقال ابن عباس رضي الله عنه ما أراه إلا أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيّنه له. سادساً: ومن ذلك أيضا تشجيع النقد البناء والمراجعة الهادفة للأوضاع سواء كانت أوضاعاً سياسية تتعلق بالدول، أو أوضاعاً اجتماعية تتعلق بالموروثات عند الناس، أو أوضاعاً دعوية تتعلق بمقررات الدعاة وأنماط عملهم وأساليبهم. مراجعة هذه الأساليب والطرائق والأوضاع بهدوء وتجرد وتدرج، ليس ما نحن فيه الآن بأفضل الأوضاع على أي صعيد، بحيث نقول: إن ما نحن فيه شاف كاف وليس عليه مزيد، بل نحن جميعاً معترفون بأن أوضاعنا بحاجة الى تصحيح، وأول خطوات التصحيح هو النقد العلمي الهادف البناء. إن الكثيرين قد يظنون ان التسلط وان الديكتاتورية، سواء كانت ديكتاتورية سياسية بمصادرة آراء الناس وحجبها ومنعهم من الكلام، أو كانت ديكتاتورية علمية بفرض رأي واحد بالفقه أو غيره ومنع الناس من خلافه، يظنون أنها توحد الناس، والواقع أنها لا توحدهم، بل ربما خانتهم أحوج ما يكونون اليها؛ لأنك تجد ان الناس قد ينفتحون كما يقع اليوم انفتاح علمي وسياسي ضخم هائل دون أن يكونوا تهيؤوا لذلك واستعدوا له؛ فيصعب عليهم التكيف والتعامل مع هذه الأوضاع الجديدة بمسؤولية. سابعاً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وهو من سمات المؤمنين {(بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (التوبة:71)
وينبغي أن يكون مُداراً بين العلماء وطلبة العلم والدعاة والخاصة والعامة، لكن هنا نقاط:
* لا إنكار في مسائل الاجتهاد التي يختلف فيها العلماء؛ فهذه المسائل لا ينكر فيها أحد على أحد، الكل مجتهد، ولكل مجتهد منهم نصيب، وان كان المصيب واحداً، وفرق بين مسائل الاجتهاد ومسائل الخلاف.
* كثير من مسائل الخلاف ربما يكون القول الراجح فيها واضحاً أو الدليل واضحاً؛ فهنا لا بأس بالتعليم والارشاد أو شيء من الانكار إذا اقتضاه الموقف والظروف.
*لا ينكر مقلدٌ على مقلد، فإذا كان الانسان مقلداً لغيره من العلماء أو المذاهب؛ فإنه لا يحق له أن ينكر على مقلد آخر.
> عدم الإنكار لا يعني عدم النصيحة؛ والنصيحة لا تكون بطبيعة الحال في المسائل العلمية المحضة، كما كان الشافعي رحمه الله يقول في كتابه الأم وغيره: إنني لا أقول لرجل خالفني في مسألة علمية فقهية تُب الى الله تعالى من هذه المسألة؛ لأن التوبة إنما تكون من الذنوب، وهذا الإنسان هو بين أجر وأجرين.
*مراعاة فقه المصالح في انكار المنكر؛ فمدار الانكار على تحقيق المصلحة ودرء المفسدة.
* مراعاة التدرج في الإنكار؛ فإن نقل الناس عما هم عليه شاق وصعب وشديد، ثم إذا لم يكن للأمر والنهي جدوى ولا مصلحة لم يكن واجباً على الانسان أن يأمر وينهى؛ كما ذكر ذلك العز بن عبدالسلام ورجحه، وذكره أيضا الشيخ الشنقيطي في تفسيره، في تفسير قوله تعالى:{فّذّكٌَرً إن نَّفّعّتٌ الذَكًرّى"} [الأعلى: 9]، ورجحه غير واحد من أهل العلم.
* الموادعة والمتاركة {(وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا) } [الأعراف: 87] وفي السيرة والفقه أبواب كثيرة كلها ينبغي استعمالها؛ فهناك أبواب للهدنة، وأبواب للصلح، وأبواب للموادعة، وأبواب للعهد، مما ينبغي على الانسان أن يتأمل ما يكون مناسباً للحال والمقام منه؛ فقد يحتاج الناس في كثير من الأحيان الى أن يتعايشوا فيما بينهم بهدوء وموادعة ومتاركة بعيداً عن إدارة الحرب والصراع.> الوضوح والمكاشفة، وعدم التعتيم أو التقليل من شأن الخلاف؛ فإن البعض ربما بدوافع عاطفية يحاولون أن يتجاوزوا الخلاف أو يقللوا من شأنه، مع أنه موجود ولا أشبه هذا إلا بالمريض الذي يذهب الى المستشفى؛ فيتم تزوير التقارير والبيانات ونتائج الفحوص والأشعة ليقولوا: إن هذا الانسان صحيح، بينما الأمراض تفتك ببدنه. إن من الوضوح والمكاشفة أن نتصارح في الخلافات التي توجد بيننا، لكن هذه المصارحة تكون سبيلا الى تجاوزها والى القضاء على الجوانب السلبية فيها.
* الفهم الصحيح وتجاوز مشكلات الاتصال؛ فإن كثيراً من الخلافات ربما تكون بسبب اشاعة مغرضة، أو بسبب قول لم يتثبت منه صاحبه، أو بسبب انطباع سيئ لم يكن مبنيا على علم صحيح الى غير ذلك من الأشياء التي توغر صدور المؤمنين بعضهم على بعض، دون أن تكون مبنية على فهم صحيح للآخر، وقد تفهم هذا الانسان من خلال كتاب أو كتب أو موقف معين؛ بينما الحقيقة قد تكون أوسع وأبعد من ذلك. إن المختلفين أحوج ما يكونون الى أن يفهم بعضهم بعضاً بشكل صحيح، بعيداً عن ردود الأفعال وعن الظنون وعن التصورات التي لا رصيد لها من الأدلة والحجج والواقع.> وأخيراً الاستفادة من علم الادارة الحديث ودراساته المتخصصة؛ فثمة كتب كثيرة في إدارة الخلاف بين الأفراد والجماعات والشركات وغيرها يمكن الاستفادة منها والاستفادة مما جاء فيها من الأخلاق والآداب التي ينبغي مراعاتها بين المختلفين.
|