السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد...
قرأت يوم الاثنين 20 جمادى الآخرة 1424هـ في الصفحة رقم 30 خبراً كان عنوانه (اكتشاف دينار ذهبي ومسجد أثري في سيناء). وفي مضمونه وجدت تفصيلاً نوعاً ما للدينار ولم أجد أي كلمة تشير إلى المسجد ثم قرأت يوم الثلاثاء 12 رجب 1424هـ وفي الصفحة قبل الأخيرة خبراً يتحدث أيضاً عن اكتشاف فرعوني جديد بأرض مصر هذه الأيام التي وإن رأيناها مدناً معمورة فإن العلماء ما زالوا يكتشفون فيها مدناً مطمورة.
أعود للخبر الأول فأقول: ذلك الدينار الذهبي الذي ضرب في فترة قوة الحكم العباسي في عهد الخليفة هارون الرشيد ووزيره البرمكي عام 181هـ وقد كتب على الوجه الأول «محمد رسول الله - بسم الله ضرب هذا الدينار سنة إحدى وثمانين ومائة» وعلى الوجه الثاني كتب «لا إله إلا الله وحده لا شريك له - محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله». والجملة كما نرى طويلة وكان الأولى لخبر مهم كهذا أن يأخذ حيزاً أكبر مؤيداً بعدة صور له وللمسجد ليتكامل الجهد.
أقول ما أروع أن تحمل هذا الدينار وتقلبه بين أصابعك وتتأمله أو تنظر لذلك المسجد فتتأمل بناءه وكيف صمد كل تلك القرون رافعاً صوت الحق وتتنهد تنهيدة تقطع بها المسافة الفاصلة بينك وبين تلك الحقبة حين كنا وكان لنا شمس لا تغيب، أو تمسك بمخطوطة صاغتها يد عالم أو فقيه أو أديب وصل الليل بالنهار لينجزها. إن هذه الاكتشافات وإن كانت لا تعيد لنا مجداً فإنها بلا شك تعيدنا له وتحفز على الاقتداء به، ترى ما الذي دفع بالرحالة العربي المسلم ابن بطوطة ومثله ياقوت الحموي صاحب كتاب معجم البلدان والهمداني بكتابه صفة جزيرة العرب وغيرهم إلى تكبد المشاق والسفر والترحال دون أن يكون لديهم أي دعم يمكنهم من ذلك وبدون أي تقنية نتمتع بها الآن غير الحرص على تسجيل الوقائع وتثبيت الحقائق حتى وإن لم يكن جهدهم موفقاً مئة بالمئة.
والآثار في كل مكان سواء كانت قطعاً يمكن نقلها أو شواهد ثابتة كالمدن والقصور والأحجار والأسوار والقلاع والحصون تشكل مع المخطوطات والشعر الذي تتناقله الأجيال تفسيراً لمجريات التاريخ وإخباراً عن أيامه وتحديداً لأحداثه على الأرض، بل إنها تجلو منه ما كان غامضاً أو مستتراً، (فكم من الوقائع التي تغيرت بعد أن تم كشف الدلائل الدامغة على بطلانها وهناك وقائع أتت الاكتشافات الأثرية فأثبتتها، بل إن هناك أحداثاً نقلها الرواة فقط بدون أي أدلة عليها فهي تظل تنتظر التأييد بمخطوطة أو أثرٍ أو بيت من الشعر كما في المعلقات التي استطاع الباحثون من خلالها الاستدلال على أماكن معينه وتحديدها) وأما الحديث عن علم الآثار في المملكة ومدى جهلنا به أو تجاهلنا له فهو حديث ذو شجون، فإن المتابع لهذا تكاد تصيبه الحيرة وهو يرى الإهمال الذي يتعرض له هذا العلم المؤثر والمثير.
وفي الوقت الذي نرى فيه بعثات الآثار تجوب العالم العربي والإسلامي، بل العالم كله لفهم تلك المراحل المتقدمة من التاريخ والتي يعجز الإنسان الآن أن يفسر ذلك الإبداع الذي وصل إليه عابرو ذلك الزمان، نتجاهل نحن كل هذا وكنا الأولى بكشف ما خلفته حضارتنا العربية الإسلامية واحتوائها والتدبر والتفكر فيما سواها، وإعطاء هذا الموضوع حقه سواء تعليماً أو تثقيفاً أو تقديراً للقلة الذين أحبوا هذا العلم أو حتى درسوه دون سابق معرفة وتهيئة الفرصة لهم لتطبيق ما تعلموه واكتشاف تلك الكنوز الغائرة في الرمال أو الرابضة في سفوح الجبال وقممها أو في أعماق البحار، وكنا ننتظر من وسائل إعلامنا عموماً والتلفزيون خصوصاً أن يكون أول المرافقين والداعمين لهؤلاء وتصوير كل ما تقع عليه خبراتهم وتدوينه، ويجب ألا أن نكتفي بجلبها لمهرجان الجنادرية، بل أيضاً تصوير كل أثر وكل قطعة في مكانها ومنطقتها الأصلية بتفاصيلها فإن المدنية تزحف زحف الرمال متجاوزة بذلك كل ما كان جميلاً لتغمره باسمنتها الكئيب وإسفلتها الجامد، وإعداد البرامج بطريقة محترفة وليس كالبرامج التقليدية التي أكل عليها الدهر وشرب واستضافة الأكاديميين وحتى الباحثين الهواة، ولا أظن التلفزيون يقبل بأن نغيّب عن آثارنا وحضارتنا أو تغيّب عنا. وأدعو هنا جريدة الجزيرة لإعادة صفحة العمارة الرائعة حيث كانت تمثل بعض العزاء ثم ألغيت وهي لا تزال وليدة تتثاءب، وحين أشاهد قناة فضائية لأي دولة أجدها تقلب في صفحات تاريخها ببرامج تبحث في الآثار والأماكن في أي عهد بنيت ومن بناها ولمَ ومن تعاقب عليها وأي علم وصلوا إليه دون تحيز لحضارة دون حضارة أو حقبة دون غيرها كما في التلفزيون السوري الذي لا يمر يوم إلا ونرى برنامجاً أو لمحة عن التاريخ والآثار، وكما أن الجزيرة العربية كانت منطلقاً لعدة حضارات مثل الآشوريين والأكاديين والعموريين والآراميين والكنعانيين والأنباط والغساسنة والمناذرة فإن سورياً خصوصاً وبلاد الشام والعراق عموماً كانت مستقراً لها، وهذا مما يدفع الأمم للنهوض والابتكار وإثبات الوجود واستعادة المكانة، ونرى أمريكا مثلاً برغم المستوى التقني الذي وصلت إليه مع هذا نجدها تفاخر بثلاثمائة سنة تقريباً من عمرها الذي قام على جماجم الهنود الحمر، أفلا تكون ألفاً وأربعمئة سنة من عمر الحضارة الإسلامية التي اضاءت الدنيا بسماحة الدين وعدل الفاتحين حرية بالبحث والتمعن والاكتشاف، ونحن لا تزال لدينا في بلدنا آثار عمرها خمسون سنة أو أقل أو أكثر بقليل ولكنها تعتبر من ضمن التاريخ المهم باعتبار اندماجنا المتأخر في الحضارة الجديدة، ألم يذكر القرآن الكريم إرم ذات العماد، وغيرها الكثير وحث في عدة مواضع على السير في الأرض والنظر فيما خلفته أولئك الأقوام لأخذ العظة والعبرة،
تخيلوا أن البعثات الاستكشافية الغربية كانت تجوب المناطق المتخمة بالمواقع التاريخية والكنوز العظيمة منذ قرنين من الزمان تقريباً سواء أفراد أو جماعات متجاوزين كل المصاعب في سبيل تسجيل أسمائهم في سجلات التاريخ وقبل هذا هم يجدون متعة أظنها لا توصف حين يصلون لاكتشاف مهما كان صغيراً، وأتساءل كيف تمسك الإسبان مثلاً بما تركه العرب المسلمون في الأندلس كيف حافظوا على معظم ذلك التراث النقي نقياً حين رأوا روعة البناء وعلموا أنه يدعم أصالتهم ووجودهم، وقد شاهدت هذا في برنامج لإحدى القنوات الفضائية يتحدث عن الحضارة الأندلسية في إقليم جنوب إسبانيا في جبال سييران يفاداً، ذلك المكان الذي لجأ إليه أبو عبدالله الصغير آخر ملوك الطوائف بعد سقوط غرناطة آخر الممالك الأندلسية والذي تميز بطابع مغربي بربري حيث الحميمية التي تظهر بين البيوت في تقاربها وانسياب ممراتها ولونها الأبيض ونظام ريها الذي يتدفق من الجبل.. شيء عجيب ومؤلم هم يحافظون على تاريخنا وآثارنا وكان بإمكانهم إلغاؤها ونحن نتعامل معها كالوافد الغريب، ولأنني عاشق للآثار والتاريخ والشعر فإنني أجد متعتي بلا حدود حين أزور منطقة يكون فيها أثر تاريخي يذكرني بذلك الزمان فأخرج وأنا أكثر فخراً واعتزازاً بما تركه أجدادنا، ولا شك أن هذا سيعطي لكل موهوب ومبدع من شباب أمتنا الرغبة في إكمال ما بدأه علماؤنا الأوائل لإثبات الحق التاريخي فيما وصل إليه العالم الآن من تقدم على المستوى العلمي.
(نرجو أن نقرأ أو نستمع لرأي المختصين والخبراء في هذا المجال فنحن بحاجة إلى أن نراهم أمامنا ليوثقوا ويشرحوا كل تلك التفاصيل ونأمل أن يكون الاطلاع على ما مضى من حضارات موازياً لما يبذل لخطواتنا كي تثب للأمام).
سلطان آل منيف
الرياض ص. ب 67250 الرمز البريدي 11596
|