ابتداءً لا يسعنا إلا أن نشيد بالإنجازات التعليمية العظيمة التي تحققت في بلادنا في فترة زمنية قياسية حولت المجتمع من الأمية إلى العلم والمعرفة، وما كان ذلك ليحصل لولا توفيق الله سبحانه وتعالى ثم تضافر جهود المخلصين في تحويل الأماني إلى واقع معاش. إلا أنه ومع دوامة العملية التعليمية المتلاحقة عبر السنين، وربما في غمرة من الإحساس بنشوة الإنجاز، أخذتنا فترة من الركود والسرمدية في أنماط جامدة في أساليب وطرق التعليم أوصلتنا إلي حالة احتقان حقيقي في مخرجات التعليم المتقدمة. وفي خضم هذا الهجوم الشرس على مناهج تعليمنا فإن حديثي لن يكون دفاعاً بحتاً عن هذه المناهج أو تنديداً بمن يهاجمها، فقد كفيت ذلك من خيِّرين كثر. ولكني سأغامر في مواجهة أوضاع تعليمية راكدة تتركز أهم محاورها في عناصر ثلاثة تشمل المعلم ووسيلة التعليم والطالب. وأبدأ بالمعلم الذي أرجوه ان يتحمل نقدي له ويحسن الظن به. ولأن المعلم يشكل نسبة كبيرة من العمل الرسمي ويقوم بدور مهم وأساسي في المجتمع فإنه يتعين أن يولى اهتماماً وملاحظة وتقويماً يرقى بعمله إلى المستوى المطلوب. لا نبالغ إن قلنا ان مهنة التدريس من أكثر المهن جلباً للتعب، لكنها عند حسن التعاطي معها بإخلاص تعد من أكثر المهن تشويقاً وحيوية بما يحفز المعلم للتفاعل والتجديد. إلا أن واقع الحال يدل على ان مستوى أداء المعلم في انحدار مستمر حتى أضحى يؤدي عمله كحد أدنى يجنبه المساءلة، ولا أدل على ذلك من التدهور الخطير في مستويات التحصيل العلمي للطلاب.صحيح أن هناك عوامل أخرى ساهمت في هذا الوضع لكن المدرس في رأيي يتحمل جزءاً كبيراً من تبعات ذلك خاصة وان الطالب يقضي معه في المدرسة وقتاً كافياً لإنجاز ما يؤمل منه في غرس التربية والتعليم المطلوب. لكن ينطبق على كثير منهم القول بأن فاقد الشيء لا يعطيه، فكثير م
ن المدرسين لا يعطي هذه المهنة الجليلة حقها من الأداء المنتج وكل همه انتهاء الحصة كيفما اتفق بل لا أبالغ إن قلت إن عدداً من المدرسين لا تتجاوز قدراته التربوية والعلمية الحد الأدنى المقبول الذي يؤهله لممارسة هذا العمل المهم.يجب ان نقر بأنه قد التحق بالتعليم فئات غير مؤهلة لأداء هذه الرسالة النبيلة حتى تراكمت من بعضهم سلوكيات غير مقبولة دون ان تواجه بحزم. إن حالة المعلمين تحتاج الى غربلة وإعادة نظر، وينبغي ان يعد مشروع حضاري للرقي بمستوى مدارسنا والتخلص تدريجياً من مثل هذه النماذج ولو بتحويلهم الى اعمال ربما إدارية بعيداً عن التأثير التربوي والتعليمي للطلاب بعدما اخفقت سلوكياتهم وقدراتهم عن تحقيق الحد الأدني من الأداء المرضي وإحلال البديل المؤهل والساحة تعج بالمؤهلين العاطلين الذين يحتاجهم ميدان التعليم.
إن فلذات أكبادنا هم امل المستقبل، وهم نبات يحتاج رعاية وبناء يجمع بين التربية والتعليم في تناسق متوازن لا يمكن ان يتحقق إلا من قبل كوادر مؤهلة. إن مجرد تغيير مسمى الوزارة لا يكفي بحد ذاته لوضع هذا العنوان الجميل موضع التنفيذ ما لم يصاحبه عملية تطويرية مستديمة بعيدة المدى.
إن المعلم هو أساس العملية التربوية والتعليمية وإذا لم يكن على المستوى المطلوب فإن العملية التعليمية برمتها مهددة بالفشل. إن المعلم يحتاج باستمرار الى تطوير المهارات والقدرات عن طريق دورات مكثفة ليس لكي يرتاح من المدرسة بل ليواكب المرحلة التعليمية التي تتطلب اكتساب معارف وعلومٍ تربوية ومعرفية ووسائل وطرق تدريس حديثةوحسنا فعلت الوزارة باشتراط اجتياز المتقدم للعمل في التعليم اختبار قدرات ومقابلة موضوعية أرى انها ستحقق المعايير اللازمة لاختيار العناصر القادرة على أداء رسالة التعليم بشرط ان يتم الاختيار بموضوعية صارمة بعيداً عن أي مؤثرات سلبية قد تفشل هذه الخطة تحت ضغوط الواقع المشحون بعوامل المجاملة والمحسوبية. لكن مع ذلك ينبغي الالتفات الى عدد ليس بالقليل ممن سبق له الالتحاق بالتعليم في غفلة من مثل هذه المعايير فشقيت بهم مدارسنا واصبحوا عبئاً تربوياً بحد ذاتهم.
أما وسائل التعليم فإنه يطول معها العجب، فمع التطور المذهل في التقنية والأجهزة الحديثة إلا ان وسائل التعليم لدينا تراوح مكانها معتمدة على الإلقاء والتلقين. مما أوجد لدينا جيشاً من الطلاب مشلولي التفكير والتدبر. إن هذا العصر هو عصر التحليل والاستقراء. حتى العلوم النظرية يمكن ان تحولها وسائل وطرق التدريس الحديثة الي دروس عملية تطبيقية ترسخ في الذهن وتكون سلوكاً معاشاً يستوعبه الطلاب بكل شوق واهتمام. ان هناك علوماً لا بد من حفظها لكن هذا الحفظ الذي لا نعترض عليه كونه من العلوم اللازم معرفتها وندعو لتعلمها لكن أليس هناك طرق ووسائل مبتكرة تجعل هذا الحفظ أكثر تشويقاً ورسوخاً وسرعة؟ ينبغي ان نجعل جميع العلوم في متناول الجميع وتلبي فهم ومدارك جميع العقول. إن هذا الزمن وكل زمن هو زمن العلم التجريبي الذي ينمي العقل ويصقل المدارك ويطور المجتمعات ولا تعارض بين اخذ ناصيته والإصرار على الحفاظ على اكتساب العلوم الشرعية التي تعد محوراً حضارياً لا يمكن المساومة عليها او التنازل عنها والتي تحث على العلم وطلبه في كافة الفنون. أما الطالب فلي معه حديث آخر، فلقد أجريت في نهاية اجازة هذا العام عملية بحثية مصغرة ازعم ان لها دلالات معبرة، حيث طرحت اسئلة تحمل نوعاً من الطرافة على عدد من الطلاب من اقاربي وابنائي وفي مراحل دراسية مختلفة حتى مستوى الثانوية العامة فاكتشفت أن الجميع مجمع على الاستياء الشديد من اقتراب موعد بداية الدراسة والتذمر من الذهاب الى المدرسة وتمني طول الاجازة. قد يكون لهذا الوضع أسباب تدفع إليه من مثل حب الفراغ والبعد عن الارتباط والميل الى اللهو خاصة مع طول الاجازة والتعود على الدعة والكسل لكن الأمر الغريب ان هذا الاستياء والتذمر يستمر مع كثير من الطلاب إن لم أقل الأغلبية طول العام الدراسي. لم أجد أو أسمع أن طالباً يذهب الى المدرسة مدفوعاً بالرغبة والاشتياق إلا اذا كان ذلك في بعض المدارس الخاصة التي تركز في برامجها على جوانب ترفيهية مبالغ فيها لجلب مزيد من الطلاب بغض النظر عن مستوى التحصيل العلمي. ولكن هذا الوضع يطرح عدة تساؤلات من أهمها: ما السبب في هذا العزوف عن الدراسة من قبل الطلاب؟ هل هذا ناتج عن خلل تربوي متوارث؟ أم أن السبب يعود الى حال مدارسنا التي اصبحت فصولها اشبه بالحظائر يتكدس فيها الطلاب في روتين يومي ممل لا يحتوي على أي عامل جذب او تشويق او حتى تجديد لا من المدرس ولا في الوسائل والطرق التعليمية. ينبغي ان نقر بأن كثيراً من طلابنا يعيش ازمة تربوية حادة في هذا الزمن المتحول وهذا ناتج عن هذه المؤثرات الهائلة التي تصب في وجدانه بشكل جعله يعيش في دوامة خطيرة ومحيرة يصعب عليه معها القدرة على الجمع بين الأصالة والمعاصرة فسقط كثير منهم في مزالق بحيث لم يعد من الهين تداركهم إلا بجهود مضنية وهذا الوضع الخطير يجعل العملية التربوية في مدارسنا تتحمل مسؤولية عظيمة لمواجهة هذه التحديات فهل هي حقيقة مؤهلة لذلك.إن الإنجاز الحقيقي الذي يمكن لأي مسؤول في التعليم ان يفخر به هو في تحقيق نقلة تطويرية تشمل المحاور الرئيسية الثلاثة التي ذكرت وبما يحقق الانقاذ الحقيقي لهذه الأجيال من هذه الموجات المتلاحقة التي تهدد حصوننا التربوية بالتآكل وما لم يحدث ذلك فإن أي معالجات جزئية ستكون عديمة الجدوي في ظل حالة جمود سائدة. إن الوضع في رأيي وبدون مبالغة يحتاج ثورة تصحيحية كبرى تواكب المرحلة. فالأمر لا يقبل فيه انصاف الحلول التي تهدر فيها الطاقات والموارد دون طائل. ان مشكلتنا ليست في غزارة المواد الشرعية او نقص المواد العلمية بقدر ما هي مشكلة في المعلم والوسائل والطلاب وما لم تتضافر جهود المدرسة والاسرة والمجتمع في إنجاز هذا المشروع فسنجد أنفسنا في مؤخرة ركب الحضارة نصارع أزمات في البطالة والعقول الفارغة والتسيب الحضاري للأجيال في وقت نحن فيه بأمس الحاجة للتدارك واستشعار المسؤولية والاستجابة لأصوات المخلصين المنادين بالإصلاح من اجل ادراك سبل الريادة والتطور الذي يجمع بين التمسك بالقيم الحضارية وامتلاك نواصي العلم الحديث في مسيرة منسجمة مع الفطرة والنواميس الكونية والقدرية التي يتحقق معها الاستخلاف والاستقرار والوحدة المرتجاة وما ذلك بعزيز ولكنه يحتاج إرادات قوية وجهوداً متوحدة صادقة حري بالجميع ان يتفق عليها ثم يعزم على التشمير لتفعليها.
ص.ب 31886 الرياض 11418
فاكس 4272675
|