متابعة: تركي إبراهيم الماضي - عبدالله هزاع العتيبي
هذه الدراسة مبنية على التكامل مع الدراسات الأخرى الخاصة بالمخطط الاستراتيجي الشامل لمدينة الرياض الذي قامت به الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض.
وعلى ضوء نتائج هذا الموضوع سينكشف لنا مدى تحقيق البيئة المبنية لمدينة الرياض للبعد الانساني وانعكاس ذلك على المستوى المعيشي للسكان، والهدف العام من هذه الدراسة هو تحليل الأوضاع الراهنة للنسيج العمراني السلوكي للعاصمة في سبيل وضع برنامج تخطيطي يساعد في رفع أداء البيئة العمرانية للمستوى المعيشي للسكان.
تعمق وتداخل!!
تتكون البيئة العمرانية للمدينة من عناصر حيازية متنوعة، ذات دلالات ووظائف تتفاوت في قدرة تأثيرها على تصورات الأفراد والجماعات وسلوكهم، ولقد دأب الانسان عبر الأزمنة والأجيال في التعايش والتأقلم مع البيئات المختلفة، عن طريق التطور والابتكار ويلاحظ أن هنالك علاقة متعمقة ومتداخلة ومتكاملة بين السكان والأنسجة والمفردات الفراغية التي يعيشونها خاصة عندما ترتفع درجة التطابق بين عادات المتسخدمين وتقاليدهم وأنماط حياتهم وتصوراتهم وسلوكياتهم وأنشطتهم وبيئتهم المبنية.
لذلك كان البعد الانساني والبيئي دائماً عنصرين متلازمين للنسيج العمراني، ولكن مع ازدياد عدد السكان والتنقل والاتصال، والاختلاط وتنوع أنماط الحياة وتعقيداتها مع اختراع الماكينة، انعكس ذلك على افراز مشاكل عمرانية جديدة دعت إلى تدخل الجهات الرسمية في تنظيم العمران وظهور التخصصات المختلفة المرتبطة بذلك.
فانتقلت عملية تخطيط المستوطنات من المستخدمين إلى جهات رسمية خارج نطاق المستوطنات وأصبحت المستوطنات تخطط لسكانها بدلاً من قيامهم، كما كان في الماضي بكامل العملية العمرانية من التصميم والتخطيط والتعمير والصيانة، وهذا الوضع أضعف تأثير المستخدمين على بيئتهم الفراغية، وبمرور الزمن تلاشى البعد الانساني والبيئي للمستوطنات.
مأوى وتجاوب!!
فالمستوطنات السعودية وأنسجتها الفراغية مأمول منها أن تقوم بأعقد الأدوار لتأوي الانسان وتحمي حياته، وتتجاوب مع عاداته فيها بشمولية، حيث إنها تحتاج إلى أن تنسق وتنظم وتدعم علاقات السكان الاجتماعية الموجهة بالتعاليم الإسلامية التي انبعثت في بيئتها الصحراوية، وأهمها الخصوصية وصلة القرابة وحقوق الوالدين والجيرة والكرم والتواصل وغيرها.
ومدينة الرياض في أغلب نسيجها العمراني الحالي تضعف العلاقة المفترضة بين الأنشطة المختلفة وقوالبها الفراغية، وهذا يؤثر سلباً على الأداء السلوكي لها، حيث إن مركز المدينة وأحياءها وعناصر أخرى أساسية كالمسكن والشارع والمسجد والحديقة والمحلات التجارية والخدمات الأخرى لا تقوم بدورها الطبيعي والجوهري للمجتمع السعودي.
مبسطة ومعقدة!!
إن البيئة العمرانية لمدينة الرياض غالباً تنقسم إلى قسمين، البيئة المبسطة والماثلة في جميع الأحياء المخططة الحديثة والمكررة العناصر، والبيئة المعقدة والمتمثلة في بيئة الأحياء الشعبية المتضاربة العناصر، ويتسم النوع الأول بالتكرار الشديد وعلى جميع المستويات وفي مختلف المواقع، نظراً لأنها تخضع للضوابط نفسها والأنظمة الفراغية المحددة، فمثلاً نلاحظ تطابق النسيح الفراغي للأحياء والشوارع الرئيسية من حيث سعة الشوارع «20م 30م، 60م» والخدمات والمحلات التجارية والمباني والأرصفة والتشجير والمسافات وغيرها.
وكل هذا له تأثير سلبي على الحس والتفكير والخبرة الفراغية للمستخدمين من جميع الدخول والأعمار والأجناس حيث إن هذه الدرجة من التكرار تولد الملل والاحباط والكآبة وبلادة التفكير وضعف المقدرة التعليمية وغيرها، بينما في الصنف الثاني المعقد فهناك فوضى فراغية ومزعجة خاصة في المناطق التي تفتقر إلى التنظيم كما في الأحياء الشعبية من المدينة ولوح المحلات التجارية وغيرها.
ألفة وتقارب!!
إن المجتمع السعودي مجتمع تقارب حيث ينشأ الفرد تقليدياً منذ الصغر على التعود على العلاقات الحميمة بناءً على المبادئ الإسلامية والعادات والتقاليد، فالفرد منذ الطفولة يبدأ بالإحساس بالألفة والتقارب عن طريق الصلاة في المسجد والتحام المصلين وتراحمهم، ربما هذه وعادات أخرى رسخت طبيعة قوة الاتصال وأثر ذلك على العمران واستخدام الفراغات المعمارية، فتجد أن هناك تقبلاً للازدحام والكثافات العالية ونلاحظ انعكاس ذلك على الطاقة الاستيعابية العالية للمكان في البيئة السعودية مقارنة بالبيئات القريبة.
فمثلاً المجلس العربي بإمكانه استيعاب ضعف نظيره الغربي، لذا فإن الفراغ الشخصي للفرد السعودي أقل مما هو موجود في الغرب، وهذا مؤشر لعدم قابلية استخدام المعايير العمرانية الغربية خاصة المتعلقة منها بالسلوكيات كالكثافات والطاقة الاستيعابية للأماكن المختلفة.
كرم ورحابة!!
إن العرف وعادة الكرم تنعكس على جزء منهم من تصميم المنزل ليعبر عن ذلك، كما في مدخل المنزل الرئيسي «مدخل الضيوف» كذلك في مجلس الضيوف نجد أن باب المدخل يكون كبيراً وجذاباً حيث يُعبر عن ذلك بالنقوش والألوان الزاهية والجميلة، وما يحيط به من برواز جبسي ناصع البياض بنقوش مختلفة وكتابات دينية وحكم، بعضها ترحب بالضيوف.
كل هذا التكوين الجمالي يوحي بالترحيب والدعوة للضيوف والأصدقاء في رغبة صاحب المنزل بإمتاعهم، هذا التعبير الفراغي يستمر إلى داخل المنزل لمجلس الضيوف الذي عادة يتصل بالمدخل الرئيسي عن طريق الإيوان، يتصف مجلس الضيوف بالسعة وارتفاع السقف وكثرة النوافذ للحصول على الاضاءة والتهوية الطبيعية وكل ذلك يعطي شعوراً بالرحابة.
الخاص والعام
والنظام النطاقي مهم جداً في تخطيط الأحياء السكنية، ومن أهم مقوماتها التي تساعد في رفع درجة التفاعل والتعمق بين الانسان وبيئته، حيث انه كلما ازداد التدرج المرتبط بالسلوكيات المختلفة التي تتراوح بين الخاص «المسكن» وشبه الخاص «فراغ أمام المسكن» وشبه العام «الشارع الخاص» والعام «مركز الحي» أوجد شعوراً بالراحة لدى المستخدمين وساعد على وضوح حقوق الاستخدام للفئات المختلفة للرجال والنساء والأطفال، وهذا يساعد أيضاً في الاحساس بالأمان.
فالنطاقية بالنسبة للأحياء السكنية الحديثة معدومة فراغياً والموجود منها مستباح من الجميع وليس مرتبطاً بسكانها ويبرز ذلك في حدة الفصل بين المكان الخاص جداً وهو الممكن والعام جداً وهو الشارع، وذلك لعدم وجود أي مناطق تحويلية بينهما كتشجير أو رصيف.
وهنالك عدة أمثلة من الشوارع التقليدية والحديثة التي تبرز أهمية النطاقية الفراغية وتنسيقها بين الأنشطة المختلفة التي تحدث بهذه الشوارع التي تزيد من احساس السكان بالمسؤولية.
وأسلوب الشوارع موجه أيضاً لسرعة الحركة وعدم التوقف والتلاقي نظراً لطريقة العزل القوي بين استعمالات الأراضي فمثلاً الخدمات تقع غالباً خارج الحي وعلى حدوده وهذا يحتم استخدام السيارة ويكون اتصال السكان بهذه الخدمات باتجاهات متنافرة ومتعاكسة.
انتشار ظاهرة توجيه أغلبية الخدمات على مسارات السيارات من تموينات ومطاعم ومتاجر وخدمات أخرى ومغاسل ملابس.. لدرجة أن بعضها انتقل إلى داخل محطات البنزين.
المركز الوطني
الرياض أكبر نقطة تلاقٍ حضاري واجتماعي وثقافي على المستوى الوطني، وفي بيئتها الفنية يتم الاحتكاك والتعارف، والتداخل ويتم تدريجياً ازالة الفوارق وزيادة التقارب حتى في اللهجة والعادات الاجتماعية.
لذا فهي المركز الوطني لتلاحم أبناء المملكة لتكوين نواة المجتمع الواحد المترابط والمتعاون والمتكامل الذي يشع على بقية الوطن، هذا التأثير يزداد تدريجياً مع مرور الزمن ويتأصل أكثر فأكثر في الأحيال القادمة.
وأصبحت الرياض أيضاً مصدر اشعاع عمراني وثقافي وحضاري حيث إن أبجديات العمران الحديث ومبادئه تبدأ وتتبلور هنا وبعد ذلك تصدر إلى بقية مناطق المملكة المشابهة، من هذا المنطلق نستطيع أن ندعم هذا الاتجاه عمرانياً واجتماعياً على مستوى المدينة وكما تعلم ان التخطيط العمراني عملية مستمرة، وكل مدن العالم لها مشاكلها الخاصة، فمدينة الرياض لها الشيء نفسه، ولكن هناك دائماً خطى مستمرة للتعامل مع هذه المشاكل حسب أولوياتها، حيث إن الوجه الأول من التخطيط من الناحية الكمية قد شارف على الانتهاء في أغلبية مناطق العاصمة، إلا أنها مازالت تحتاج إلى الكثير من التخطيط النوعي الذي يهدف إلى المساهمة في رفع المستوى المعيشي لسكانها.
ومن أهم المشاكل التي تبدو ذات علاقة وتأثير سلبي على النسيج الاجتماعي هي أسلوب استعمالات الأراضي والخدمات العامة ونظام الحركة في المدينة.
فالملاحظ أن استعمالات الأراضي تتبع أسلوب الفصل شبه الحاد وهو الأسلوب التقليدي القديم في نظام استعمالات الأراضي الذي يخلف الكثير من العوازل ويتطلب استعمال السيارة للانتقال بين الاستعمالات المختلفة.
فالاتجاه الأفضل والأحدث هو المزج بين بعض هذه الاستعمالات بهدف ايجاد الحيوية المطلوبة لتقوية العلاقات الاجتماعية، فمثلاً بالامكان المزج بين التجاري والسكني والخدمات في الحي وبين الاستعمال التجاري والاستعمالات الثقافية والترفيهية والاجتماعية والحضارية خاصة في المراكز.
محاور ومراكز
تقوم مراكز ومحاور الاحياء التجارية والخدمية بتأثير كبير على سلوكيات المجتمع حسن توجيهها وايحائها ومقدرتها على حدوث أنشطة معينة فيها، فلو قارنا هذين النوعين وهما المحاور التجارية التي تقع على حدود الأحياء المنتشرة ومراكز الأحياء المعلقة كما في سكن أعضاء هيئة التدريس بجامعة الملك سعود والحي الدبلوماسي «ساحة الكندي».
نلاحظ الأولى وهي المحاور التجارية تضعف العنصر الاجتماعي وتضعف التكافل بين أبناء الحي الواحد، حيث ترى تراصف أنواع الاستخدام التجاري على جميع الحدود الأربعة للحي الذي يكون حلقة خانقة حول الأحياء من ناحية ازعاج السيارات وتهديد سلامة السكان.
لكن في حالة المراكز الخدمية كالموجود في سكن جامعة الملك سعود وحي السفارات نلاحظ أنها أولاً خاصة بسكان الحي وثانياً ونظراً لوضعها الخاص، فالمركز شبه مفتوح للسكان والزوار وفي كلتا الحالتين نلاحظ أن هذه المراكز أكثر انسانية وعائلية، وتعمل على تلاقي النسيج الاجتماعي وتكوين بيئة هادئة موجهة للمشاة وللتجمعات ولأغراض الترفيه المتنوعة.
جلسات متنوعة
فمثلاً «ساحة الكندي» بحي السفارات لها دور اجتماعي وحضاري فتصميمها وتركيزها على ساحة مشاة جميلة توفر جلسات متنوعة وبدرجات من الخصوصية وترابط ذلك مع المطاعم وغيرها تشجع على ظهور عادات جديدة، حيث نلاحظ أن المكان يوحي للزوار بسلوكيات مختلفة وهي مثلاً جلوس عوائل سعودية في جلسات، وعلى طاولات في أماكن مفتوحة مع وجود المسافات الكافية لإحساسهم بالخصوصية الممتعة، اضافة لوجود الفراغات الكافية لتنزه العائلة وانطلاق الأطفال.
ترابط وعصرية
تحتاج مدينة الرياض لشبكة مواصلات عامة ومترابطة تربط جميع أجزاء المدينة وعلى جميع المستويات، ويمكن أن يشمل نقلاً جماعياً مريحاً وسريعاً، وقطارات وترامات توازي طريق الملك فهد.. ومن المهم في هذا النظام استيعاب خدمة العائلة وخصوصاً المرأة.
وإيجاد طابع عمراني محلي ومتميز لمدينة الرياض يبرز شخصيتها مع اعتماد تخطيط عصري للمدينة على أسس علمية يكون في حسابها خدمة الأجيال القادمة.
كما تحتاج مدينة الرياض لإعادة تطوير الأحياء القديمة وتحسينها وإلى تطوير القطاع الترفيهي، واستخدام أرض الفضاء كميادين لتنفس الأحياء المحيطة بها.
تصور وجاذبية
وللعاصمة تصور وجاذبية خاصة لدى الشباب الذين يرون فيها تنوع أنماط الحياة والغموض والاستقلالية والمنافسة والمكانة الاجتماعية والمجتمع الراقي والفرص المتعددة.
ومن أهم العناصر القريبة والمحببة إلى غالبية السكان وتشكل تصوراتهم عن المدينة هي منطقة قصر الحكم والحي الدبلوماسي وأحياء الشمال وطريق الملك فهد والدائري.. ويرون أن مركز المدينة يمثل المحافظة والاستمرار والتطوير لتراثنا العمراني الذي يقوم بربط الحاضر بالماضي ويكون بذرة صالحة في قلب المدينة، ويقوي الانتماء وقوة العلاقة بين السكان ومدينتهم، ويمثل صرحاً حضارياً يهدف مع عناصر أخرى إلى تأسيس مدينة راقية تجذب سكانها إلى الفخر بها.
|