أذكر عندما كنت طفلة، كان ابتياع زجاجة مرطبات من مقصف المدرسة يمثل لي تجربة مؤلمة وصعبة، فقد كنت أمام خيارين إما أن ألقي بنفسي في لجة الزحام وأنال ركلة من هنا ولبطة من هناك ومن ثم يهتصر جسدي بين أجساد الفتيات المتزاحمة، أو أنتظر حتى يخف الازدحام وعادة لا ينفض إلا بنهاية الفسحة وانتهاء العصير، وكثيراً ما كنت أفضل الخيارات التي تأخذني بعيداً عن الازدحام فدوماً أحس بأن الأمور التي يتجمهر حولها الناس هي أمور مبتذلة ومتاحة للجميع، أو لربما هو تعليل كنت أعلل به عجزي عن الانغمار في ذلك الازدحام الشرس، واليوم بعد سنوات عديدة كنت أدرس دبلوماً تربوياً في إحدى الكليات، وبين المحاضرات كنا نذهب لابتياع كوب من القهوة من مقصف الكلية، فنفاجأ بنفس المنظر والأسلوب القديم، وأخذت أحس بأن الزمن يمر من أمامنا ونحن متوقفون، الزمن عادة يتقدم بالبشر يحملهم إلى مواقع أكثر تقدماً على مستوى السلوكيات الانسانية والحضارية، ولكن يبدو أن الزمن الذي يفصلني عن أيام الابتدائي، والزمن الذي يفصل طالبات الكلية أيضاً، لا يندرج في الحسبان، بل هي دائرة تظل تلتف على نفسها لتعود إلى نفس مواقعها القديمة.
وأعتقد بأن الأمر يتعلق بطبيعة تكوين ثقافي عاجز عن أي يخلق صيغة حضارية وسلوكية في التعايش، فالصيغة المسيطرة هي أنا ومن بعدي الطوفان منذ سنوات طويلة امتداداً إلى العصر الجاهلي، ألم يقل الشاعر الجاهلي عمرو بن كلثوم:
ونشرب إذا ما وردنا الماء صفوا
ويشرب غيرنا كدراً وطينا
ومصدر الفخر لديه أن قبيلته تشرب الماء قبل الجميع ويشرب الباقون الكدر والطين الذي أثاروه عند المياه هم ودوابهم، وببساطة هذه هي فلسفة التعايش بيننا التي ظللنا نتناقلها عبر القرون ولم نتخل عنها لسلوك أكثر حضارية وإحساساً بالآخرين، ويبدو أننا كنساء بمنأى عن التعامل العجيب الذي قد يتعرض له الرجال حال تسديد الفواتير في البنوك أو زيارة الوزارات لإنجاز معاملة ما، وحس الفهلوة والتشاطر الذي يسيطر على الجميع.
هل تعرف أحداً ما استبدل حس الغبن والمهانة في الصفوف غير المنتظمة، بوظيفة «معقب»، يمتلك أساليبه الخاصة في دهاليز تلك الوزارات، ويبدو أننا المكان الوحيد في العالم الذي اخترع وظيفة المعقب، فهي وظيفة تختصر الجهد بدلاً من التزاحم والتوتر بين الصفوف، المعقب هو الاختراع المحلي الجيد الذي يجعلنا لا نشرب ماءنا كدراً وطينا.
|