كنت أتأملها وهي تتحدث ببطء وتضغط على مخارج الحروف، كانت منقطعة عن العالم من حولها، كانت مطوقة بأمجادها الخاصة التي تصنع سوراً سميكاً حولها وحول الآخرين، كانت تصف الطريقة التي تطعم بها أطفالها، الوصفات الشعبية التي تعدها لهم، وطريقة تربيتهم، وإعجاب الآخرين بأولادها ونجابتهم وذكائهم وتربيتهم .... تلك النجابة المتوارثة إليهم عبر تفوقها العلمي والأكاديمي وكبتها وبحوثها النادرة التي يشار لها بالبنان، كانت تعيش في قلعتها الخاصة حيث لا يوجد فوق جدرانها سوى مرايا تعكس الأنا، وقديما قالت العرب «السنور الصياح لا يصطاد شيئاً» ويكنون بها للذي قوله أكثر من فعله.
لم أستطع أن أدينها أو أطلق أحكامي الخاصة عليها فقط استغربت انغمارها المتقن.
وفي الحقيقة جميعنا نمتلك هذه الأنا الضخمة هذه الروح المتطلعة دوماً إلى التميز، فنحن عبيد الله، والله نفخ في صدورنا من روحه فكانت هذه الروح السرمدية المتجاوزة للمكان والزمان.
ولكن القضية تكمن في الكيفية التي نوظفها بها ضمن حدودنا البشرية، فالبعض يبقى أسير هذه الروح بحيث ينشغل بها عن من حوله، تصبح علاقته بها تأخذ ثلاثة أرباع وقته بحيث يعجز عن تحويل هذا الانشغال والوله والحب إلى فعل إيجابي يسهم في إعمار الكون، لكنه يستبدل هذا بأرجل خشبية من الكلام والتفخيم والتعظيم للذات كلما بادره الواقع وعرف بانه لم يحقق نجاحاً فعلياً وملموساً.
والبعض الآخر يطمر أمانة الله تحت أكوام من التفاهات والمشاغل الصغيرة واليومية، وتدفن تلك الروح في أعماقها ولكن بين الحين والآخر تتبدى له في حالات من الكآبة والقلق والإحساس بألا جدوى.
والبعض الآخر «وهم قلة» هو الذي يستطيع ان يروضها ويجاهدها «الجهاد الأكبر» ويجير طاقاتها ونفحاتها الربانية الجبارة، في دروب النماء والإعمار، وهؤلاء هم ندرة ولا يجود بهم الزمان الا بين حين وحين، لذا دائماً العظماء قلة ولكن هم وحدهم الذين يصنعون التاريخ.
|