عاد الأصدقاء من رحلة صيف طويل، وإجازة قيظ مرهق، واستقبلناهم نحن القابعين بين أكناف نخيل صيفنا العادي، تقريباً، بكل الشوق والترحيب، وبعض من التشفي، وكثير من الدعاء بالشفاء العاجل، والسكون المريح.
* أنا مخلوق صيفي كبقية أهل البلد، وأحاول الانسجام مع هذه النزعة الصيفية المتأصلة، والتعايش معها، وأحاول، أيضا، تأصيل وتأكيد عرى الصداقة، والأخوة، مع الرّطب الطازج، والرمان المنعش والعنب الحاذق، في مواسمها، ومواطنها، وإذا كانت ثمة هجرة إلى الشمال، فأفضلها شتائية، لأن الشتاء الحقيقي، هناك، والصيف الخالص، هنا، وهذا من قبيل الإخلاص للفصول في أماكنها، والحرص على عدم تبديل، الجلود، والثياب، والأدثرة قبل أوانها، وفي غير مكانها.
* الأصدقاء العائدون، أنواع، شتى قليل منهم، بدا عليهم انهم قضوا، حقاً، إجازة ممتعة، وصيفاً مريحاً، ولا أعلم لذلك سبباً حقيقياً، ولكنني، أخمن الأسباب، وأظنّها، خاصة، بالنسبة لصديقي، الشاعر، الذي عاد، وفي جعبته، قصيدة، رائعة، ومعبرة فتحت أمامي، تساؤلات كثيرة، عن الشاعر، وخصائصه وخصوصياته، التي تميزه، عن بقية مخلوقات الله، الناطقة وغير الناطقة.
* ما الذي يجعله، يعود، ضاحكاً، مبتهجاً، وسليماً، من آفات الصيف وكآبة العودة، بينما، يبدو الآخرون، مبعثرين، مرهقين واجمين، مثقلين، حتى أنك تحتار، أمامهم، بين تقديم واجبات العزاء بانتهاء الصيف الأجنبي الطويل، أو، التهنئة بالعودة، إلى وطن، اشتاق إليهم، ونفترض انهم، قد اشتاقوا إليه؟
* لكن، الشاعر، دائماً، شخص، مختلف، وشيء مختلف، في الإقامة والسفر، والصيف والشتاء، وكل الفصول ولا بد ان كلمة شاعر، لا تعني فحسب انه إنسان، يحظى، بشعور أعمق، وأبعد، ولكنها، اسم جنس مختلف تماماً، يشمل ذلك الشعور المرهف، طبعاً، لكنه لا يتوقف عنده، بل نتجاوزه كثيراً، ليظهره مخلوقاً، ناطقاً، قادراً، على تمثل «الحالة» الإنسانية العادية، والاستثنائية، فيخلق كلمات، كأنها ليست من جنس الكلام، وينفث فيها، موسيقى كأنها ليست من الموسيقى، وينظم معاني ذات شفافية خاصة يقتنصها من الهواء، أو الغيب، أو من صندوق سحري غامض، لا نعرف مكانه، أو زمانه، أو التعويذة السحرية، التي تفتح مغاليقه.
* في النهاية نستمع إلى القصيدة، الحقيقية، فنهتف جاهرين أو صامتين ونقول: يا سَلامْ.
* نظرت إلى صديقي الشاعر، وهو يقرأ قصيدته التي تمتزج، في مزاجها السحري لهيب النار، والقيظ مع ابتراد الماء والظل. رأيت في بريق عينيه، وانفراج أساريره، براءة «الطفل» وبهجته، وفضوله، واستثارته، وسمعت في كلماته حكمة «الشيخ»، ووقاره، وتأمله، وتساءلت: هل يجتمعان؟ ووجدت الجواب، حاضراً باهراً: نعم، في «الشاعر» فقط، يجتمعان ويجتمع كل متنافر متناقض، متباين، متباعد، لأن في الشعر والشاعر تنتفي المعضلة المنطقية الرياضية عن تباعد الخطين المتوازيين وتختفي المسألة الكيميائية المختبرية عن امتزاج المتنافرين من نار، وماء، وملح أجاج، وعذب فرات، وقلب وعقل، وحلم وحقيقة، وبكاء وضحك، وشيخوخة وشباب، ورجل وامرأة، وبراءة وخبث، وكل ما يأتلف وما لا يأتلف.
* انه «عالم» سحري خاص لا نعلم حقاً قوانينه وضوابطه، ومنابعه ومصبّاته، ونهره المتدفق، أو ضفافه السرابية المتموجة.
* الشاعر الحقيقي تعرفه عندما تراه، أو تسمعه، أو تقرأ له، ويحاول «المهندسون» أو النحاة والصرفيون، والبلاغيون أن يختصروه إلى لغة وقافية وتفعيلة فينتهوا غالباً، إلى الحديث عن «النظم» وليس عن الشّعر. ويتحدثون في أكثر الأحيان، عن «الناظمين» و«الناشدين» وليس عن الشعراء الساحرين. يتسرب، الشعراء، الحقيقيون، كالظل من بين أصابعهم ويختفون كالطيف من خلال أدواتهم ومساطرهم، ويتسللون مثل السراب، من أمام أعينهم. ويقف الشعراء الحقيقيون، والشعر الأصيل، البريء الطازج أمامهم وأمامنا متمرداً، ومتملصاً متجرداً من كل تأطير، وتعريف، وحصر وتحديد، وتصنيف، وأرشيف.
* نستمتع بلحظة الاندهاش، والمفاجأة والتنوير والمباغتة ونقول، فحسب: هذه قصيدة جميلة، وهذا شاعر حقيقي.
* يعود الناس، من «أسفارهم» كما يعودون عادة، ويؤوب «الشاعر» وحده مختلفاً متفرداً كما انه لا يؤوب كل مرّة على نفس النحو أو المثال.
* نقف، نحن المخلوقات العادية، على الضفاف، نرقب تدفقه أو انسيابه أو فيضانه ولكننا حتى ونحن نرقبه عن كثب، لا نعرف أننا نراه حقاً.
* هل نرى، حقاً ذات النّهر، في لحظتين أو بين بارقين أو لمحتين ؟
|