Tuesday 16th september,2003 11310العدد الثلاثاء 19 ,رجب 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

الذكرى الفاجعة للحدث الأفجع..! الذكرى الفاجعة للحدث الأفجع..!
د.حسن بن فهد الهويمل

تمر بالعالم ذكرى (الحادي عشر من سبتمبر) الخميس 14/7/1424هـ بكل غموضها وتداعياتها وويلاتها ومخاضاتها. وكل دولة أو منظومة دولية في ظل هذه التداعيات ترفع درجة الترقب والحذر، وتبدئ وتعيد تساؤلا صعب الانقياد: - ماذا يراد لهذا العام؟ أيراد به الأمركة، أم العولمة، أم العلمنة، أم الأسلمة؟ ومن يحكمه: - المؤسسات، أم (اللوبيات)؟ وما يحركه: - الاقتصاد، أم (الأيديولوجيات)، الحضارات أم المدنيات؟. وكل معني يعيد قراءة الحدث، وكل مصور يلتقطه من الزاوية التي تهمه، ومع تعدد القراءات والتصورات يغور الحدث في أعماق اللاوعي، منعكساً على كل التصرفات، وكل المتابعين يودون الوصول إلى كنه (أجِنْدة) المتصرفين بالشأن العالمي، ويقوِّمون المواقف السالفة واللاحقة من خلال لغة الأرقام، وتنبؤات الراصد الخبير ببواطن الأمور، بعيداً عن الاهتياجات العاطفية، والادعاءات الاستهلاكية. وكل شجي يتحسس عمن سيتحمل العبء الأكبر من تبعات الطامة، ومن سيتجرع مرارة الخسارة: مادياً ومعنوياً، ومما لاشك فيه أن العالم العربي والإسلامي تحمل الشيء الكثير، جراء الإفك المشاع والاستدراج الماكر، والذين اقترفوا ماهم مقترفون، تحت أي فكر أو استجابة لأي مصلحة أحيل مقترفهم إلى الإسلام والمسلمين، ومن ثم صبت عليهم أسواط العذابات وسيموا الخسف، ونيلت ثوابت الإسلام ومرتكزاته: العقدية والتشريعية والأخلاقية في عقر داره، وحمل على دفع الثمن مضاعفاً من كرامته وأمنه ومقدَّراته. وأمريكا التي فاجأت العالم بتصرفات رعناء، خرجت بها على الشرعية، واستدبرت بها المؤسسات الدولية، التي عملت على إنشائها، وحرصت على تفعيل أدوارها، عادت لتحتمي بها، وفتشت عن أصدقائها المهمشين ليقيلوا عثرتها. لقد تلقت الصفعة الموجعة حين فاجأها الحدث الرهيب الذي ما كنا نوده، لأنه اعتداء على أبرياء، وقد نكره شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً، وكان لهذا الحدث أثره النفسي والمادي على أمريكا، مما أربكها في ردها الفوري المجازف، وهي إذ خسرت مالا يتصوره العقل من (بلايين الدولارات) فإن خسارتها المعنوية والبشرية أشد فداحة وأنكى. لقد أسمعها الذين لايردون لها طلبا من اللاآت ما لم تكن تسمعه من قبل، وفقد المتنفذون في مؤسساتها الكثير من الهيبة والمكانة، وطاردتهم أشباح المساءلات والمحاكمات، وهبطت أسهمهم الشخصية، وكانوا قاب قوسين أو أدنى من المحاكمة أو التنحية.
والحدث رهيب، ورده أشد رهبة، بحيث لم يتوقعه أحد بهذا الحجم، وبهذا التأثير، حتى الفاعل الحقيقي ما كان يحلم بنفاذ العملية ونجاحها وفداحة نتائجها، ولما يزل العالم بأسره يبحث عن تصور منطقي ومعقول للمخططين والفاعلين والمستفيدين، والارتباك الذي يعانيه صناع القرار، والتخبط العشوائي في ردود الأفعال، لها ما يبررها، فدولة بإمكانيات الولايات المتحدة، تُخترق أجواؤها، وتُغْزى في عقر دارها، وتسدد لها الضربات المفصلية الحساسة في: التجارة والدفاع، وهما ذروة سنام مجدها، لايمكن ان تكون في ظل هذه الأوضاع قادرة على إفراز عمل متزن. لقد كان الحدث فوق التصور، وفوق الاحتمال، وهذا الارتباك حوَّل القوى الرادعة إلى قوى متغطرسة، لا تحسب للعواقب أي حساب، لقد دخلت أمريكا الحرب، وانتصرت في المواجهة، ولكنها لم تنجح في التصفية والحسم، وانتقلت من حرب المواجهات إلى حرب العصابات، وهي في المواجهة طالت أمماً منهكة من جراء حروب أهلية أو قبضة حديدية، وأحدثت فراغات سياسية، وفتحت ملفات ملغومة، وأيقظت طائفيات وعرقيات وإقليميات وأحزاب، وجدت الغنائم مطروحة في الطريق، وحسبتها سائغة الشراب فاندفعت إليها، ولم يدر بخلدها أنها من عين آنية. هذه الاهتياجات الرعناء من كل الأطراف، هزت كيانات، وربكت مسيرات، واستعجلت تغييرات، ومكنت من تصفية ثارات، وخلطت أوراقاً كثيرة، تغيرت معها (الاستراتيجيات) والخطابات، والتركيبات السكانية، ولوحت بالتقسيم، وعسكرت الطوائف والأقليات والعرقيات. والنتائج الحقيقية لم تأت بعد، فالمرحلة مرحلة مخاضات لأحداث وأوضاع لها ما بعدها، وإن كان الضر قد مس الجميع. والمؤلم أن الحدث يتداوله الفارغون والممتلئون والصهاينة والمتصهينون على حد سواء، ولكل فريق رهانه، وهو أشبه (بليلى) التي يدعي وصلها الجميع، فيما تستبعده عن الجميع، ويبقى الحدث كمن يحاول أن يسبق ظله.
والذين اهتاجوا، لم يراجعوا أنفسهم، ولم يحددوا أهدافهم، ولم يستفتوا شعوبهم، بل أكاد أجزم بأنهم كذبوا عليها، الأمر الذي حدا بالشعوب إلى مساءلة القادة عن التهييج والتضخيم والكذب، واهتياج القادة حفزهم على الاستعجال في افتعال محاور للشر، وتحديد جيوب الإرهاب، وفق رغباتهم، وممارسة التعبئة العسكرية والإعلامية لتضييق الخناق بالمحاصرة والمقاطعة والمواجهة العسكرية غير المتكافئة، متجاوزين الانتداب إلى الاحتلال والمعالجة (الدبلوماسية) إلى الحسم العسكري. وما أن توغلوا في الأعماق، وحلوا المؤسسات، حتى بدت المستنقعات والمصايد، وأصبحت آليات المهتاج ورجاله في مرمى المتمترسين في الكهوف والمغارات. وإذ تكون الديار أشباحاً والمؤسسات أطلالاً، والناس بين قتيل أو جريح أو سجين أو مطارد أو فاقد لأدنى حد من مقومات الحياة الكريمة، فقد أصبحت القضية لعبة خطيرة، تستدرج الأقوياء ليمارسوا حرق الأرض، وكسر العظم، فيما يظل المتنفذون المطلوبون غائبين أو مغيبين حفاظاً على احتقان مشاعر الرأي العام. وقراءة الأحداث تضع أمريكا على رأس الخاسرين، لا من حيث ما ينالها تباعاً من عمليات المقاومة العنيفة المتصاعدة، ولكن مما لحق بها جراء مغامرات غير محسوبة، تجر قدمها إلى دركات الاخفاق الذريع، لقد فقدت المصداقية والثقة والأصدقاء، وحملت الأدمغة والأموال إلى التسلل من أرضها، وأتاحت للمنافسين فرصاً ذهبية، ويليها في الخسارة المسلمون ومشاريعهم، فالدعوة إلى الاسلام في أمريكا سدت أمامها الطرق، والأقليات الإسلامية حوصرت بالمطاردة ومنع المساعدات، وسماحة الإسلام أفقدت مصداقيتها بسبب تصرف المتطرفين، وجسور التواصل بين الحضارات نسفت وتحول الحوار الحضاري إلى صدام، وتزاحم المصالح إلى صراع.
والعالم العربي والإسلامي مستهدف من قبل الأحداث ومن بعدها، فمنذ ان سقط المعادل (السوفييتي) والقطب الواحد يبحث عن معادل بديل، تشحذ به الهمم، ويوتر به الرأي العام الذي لايحتقن إلا بتضخيم العداوات والخوف. ولم يكن بد من أن يكون الإسلام هو الخصم الجديد القديم، على الرغم من ضعف المسلمين، وتخلفهم، وتنازعهم، وارتمائهم غير المشروط في أحضان الغرب، والمكائد تتعاقب على الإسلام والمسلمين من أبنائه وأعدائه على حد سواء، ولكنه على الرغم من كل مايحاك ضده محفوظ بحفظ الله، يمس المسلمين الذل والضعف والهوان والقتل والتشريد، ولكنهم سيظلون بانتظار تحرف أو تحيز أو مصلح، يجدد للأمة أمر دينها، ويعيد للمستضعفين سلطانهم وهيبتهم. والبشارة في حديث (ثوبان) وفيه استجابة الله لرسوله: - (وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليها من بأقطارها). ولو لم تكن الأحداث، لكان لها بديل يشرعن للأقوياء التدخل السافر أو الخفي، وحين لا يكون عدو خارجي، يكون بأس الأمة بينها شديد، وفي الحديث: - (وسألت- ربي- أن لايجعل بأسهم بينهم فمنعنيها) وكلما نزلت بالأمة نازلة، زادت المؤمنين إيماناً، وزادت مرضى القلوب رجساً إلى رجسهم، والحدث وتداعياته يحفز الأمة على أن تبادر قدرها المأزوم بتصرف حكيم، يدفع ولا يواجه، ويحاور ولاينازع، ويتصرف بحكمة وروية ولا يغامر، ويسعى لجمع الكلمة وتجاوز الخلافات.
ومع التقتيل والتشريد والتدمير الذي يمارسه الأقوياء والمستضعفون على حد سواء فإن الله حرم الظلم على نفسه، وجعله محرماً بين الناس، والعدل مطلب إسلامي (من كل شيء لكل شيء في كل شيء)، فلا يجوز الظلم تحت أي ظرف ومع أي جهة، والأمة الإسلامية على موعد مع نصر الله، وليس بينها وبينه إلا أن تعدل وتظهر الدين وتدعو وتغير ما بنفسها.
والحدث الذي لما يزل يمطر العالم بوابل من التعديات والمقترفات واكبه تقصير واضح، وأخطاء فادحة، وممارسات سياسية خرقاء، وزعامات رعناء، وإعلام لايملك إلا النزيف والتصنيم. ومن الخير للأمة المستهدفة أن تحاسب نفسها، وألا تبحث عن مشاجب تخلي فيها مسؤوليتها عما حدث، وإذا قلنا بالغزو أو بالتآمر فلأخذ الحذر لا لتبرئة الساحة. نعم هناك غزو وتآمر، ولكن هناك قابلية للاستعمار، وعمالة ومواطأة، وتنفيذ لعب كونية، والعالم العربي والإسلامي هو الطرف الخاسر فيها. الدول العربية اخترقتها المؤامرات، وتداعت تنازلاتها من ال(كامب ديفيد) إلى (أوسلو) ومن الأرض مقابل السلام إلى الأمن مقابل الأرض، ولقد بادر البعض بالاعتراف والتطبيع والتمثيل وسائر التبادلات دون أي مقابل، بل جاء ذلك في ظل حكومة إرهابية، ستدفع بالمنطقة إلي حمامات الدم، وما كان لأي مسلم أن يضع يده بأيديهم، فهم يهود مغتصبون إرهابيون، ومع كل هذه التنازلات ضعف الأمن، وانكمش الاقتصاد، واستفحلت البطالة، وتفرقت الكلمة، وطاشت السهام، ومن الخير للأمة العربية أن تعيد النظر في شأنها كله، معتمدة الهدوء والسكينة والدفع بالتي هي أحسن، والحوار الحضاري بدل الصدام. وهي إذ تعيد النظر، وتضع الأمور في نصابها، تحبط المحاولات الماكرة على من يفرضون عليها الحرب، ويختارون الزمان والمكان. إن بإمكاننا ان نفوت الفرص بالحيلولة دون التحريش فيما بيننا، ودون التجاوز بخلافاتنا الجلسات المغلقة، ومن ذا الذي يستطيع إشعال الفتن إذا شاعت الثقة فيما بيننا، واعتصمنا بحبل الله، وخرجنا برؤية جماعية، تضع الطرف الآخر أمام نفسه، وتحمله على مراجعة حساباته، وبالوئام والإيثار والتسامح، نكون كسبنا الجولة، وفوتنا الفرصة على الخصوم. والوفاق المطلوب لن يتحقق ونحن نخاف من بعضنا، ونبدئ ونعيد ما مضى من مقترفاتنا، ولن يتحقق ونحن نعمق الفرقة بتعدد الانتماءات والولاءات والأحلاف والمرجعيات، ونتصرف وحدانا في القضايا المصيرية، وكان بالإمكان ان نتصرف جماعات، لا نتخاذل، ولا نتدابر. وليست الإعانة المندوب إليها ان نقر ظلماً، أو ان نغض الطرف عن طاغية، وفي الحديث (أعن أخاك ظالماً أو مظلوماً) وإعانته حين يكون ظالماً برده عن ظلمه، ولو فعلنا ذلك مع المجازفين لحسمت المشاكل أولاً بأول.
والمحللون السياسيون والقنواتيون والفضوليون والمغرضون والمتربصون والماكرون والأذكياء والمتذاكون كل أولئك سيقولون في ذكرى هذا الحدث ما يعن لهم، وما يوافق أهواءهم غير عابئين بالحق. والمشاهد لن تتلقى قولاً بريئاً، ينشد الحق لوجهة، إذ كل متحدث له خلفيته الثقافية وانتماؤه الفكري ومصالحه الطائفية والإقليمية وأحلافه الثنائية، والمتلقي سيكون ريشة في مهب الريح، يسمع القول ونقيضه، تختلط عليه الأصوات، وتتشابه الكلمات.
لقد كان من تداعيات الحدث الرهيب أن خاضت أمريكا ومن ورائها بريطانيا حروباً ساخنة وباردة، وتخبط إعلامها واضطربت آراء رجالاتها، واخترق المغرضون مؤسساتها التشريعية والتنفيذية، وعرضوها لممارسات لا تليق بدولة مؤسسات دستورية و(برلمانية)، وانعكس أثر هذا التخبط على اقتصادها، وطعن مصداقيتها، وأتاح الفرصة لمن لم يجرؤ على الكلام أن يتكلم، ومن لم يجرؤ على التمنع والإباء أن يتردد، فكم من طلب ضرب به عرض الحائط، وكم من تهديد أمره المعنيون دون اكتراث، وكم من تنازلات تشيء بالارتجال والتردد، وما عهدنا دولة عظمى كأمريكا يعصى لها أمر، أو يرد لها طلب، أو تسأل عما تفعل، إلا حينما أصبحت تتصرف كما لو أنها دولة نامية، يحكمها أفراد لا يحتكمون إلى قانون، ولا يخضعون لدستور.
والخطأ الفادح توجيه الاتهام إلى حركات إصلاحية أو أنظمة سياسية أو مناهج دراسية أو شعوب بعينها مع تجاهل فلول اللعب الكونية التي جعلت من (الجهاد) إكسير الخطاب الإعلامي، وتحت وابله تدافع آلاف الشباب العربي والإسلامي لمواجهة الاتحاد السوفييتي، وما أن سقط، ترك اللاعبون الشعور الجهادي بكل توتره واحتقانه، فكان ما كان وماسيكون. وفي النهاية فإن الحدث رسالة، لم تفكك شفراتها، ولم تفهم أهدافها، ولم يعرف من وراءها، وكان على المستهدف ان يعرف لماذا استهدف، وأن يغير ما في نفسه ليغير الآخرون ما بأنفسهم، ولن يتم ذلك حتى تقرأ كل الأطراف الحدث، وتتعرف على أسبابه، وتلتقي حول مصلحة الشعوب، محترمة العقائد والحضارات، مستشعرة حق الحياة الكريمة لابن آدم الذي كرمه الله.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved