اكتشفنا مؤخراً أن عدداً من أنظمتنا الاستثمارية تقادم وشاخ، وأنها تنفر كثيراً من المستثمرين لتعدد وتشعب وطول الإجراءات، واكتشفنا أن كثيراً منها إجراءات احترازية «بلا معنى..». وكانت الأنظمة متشددة تجاه الاستثمار الأجنبي رغم أن اقتصادنا «حر» وسوقنا «مفتوح»، وقد يرجع ذلك إلى عدة أسباب: «منها ما يتعلق بخلفيات اجتماعية تاريخية تميل إلى رفض ممارسة الأجنبي للتجارة، ومنها ما يتعلق بأن بعض أنظمتنا وقراراتنا غالباً ترى أن المنع هو الأصل والسماح هو الاستثناء». ومنها «أننا في سعينا حول الحد من البطالة نرتكب خطأ غير مفهوم! وهو تجاهل الإدارة والتركيز على ملكية المشاريع بحيث تُحصر على السعوديين.. بينما يعرف الجميع أن الملكية الحقيقية لأغلب المشاريع في المملكة هي إما لأجانب وإما لمواطنين موظفين..».
هذه المقتطفات المقوسة كانت من كتاب الأستاذ خالد الفريان، من تأليفه بعنوان «الأجانب في السعودية.. مفاهيم اجتماعية واستثمارية». وكان المؤلف أهداني كتابه حين التقينا في دعوة كريمة بادر بها سمو محافظ الهيئة العامة للاستثمار الأمير عبدالله بن فيصل بن تركي جمع بها ثلة من الكتاب مع المختصين والخبراء في الهيئة، لإجراء نقاشات حول التوعية الاستثمارية إعلامياً وثقافيا.. وأهمية الاقتصاد والاستثمار في عملية الإصلاح الشامل.
وقد استعرض الكتاب بطريقة رائعة موضوع غير السعوديين المقيمين في المملكة مناقشاً أنظمة وسياسات الاستثمار الأجنبي من منظور ثقافي اجتماعي إضافة للمنظور الأساسي وهو الاقتصادي.
وضم الكتاب ثلاثة فصول، اضافة للملاحق والجداول الإحصائية.. كما بدأ الكتاب بملخص، وقد خلا الكتاب من مقدمة، وهذا في تقديري عيب ينبغي تلافيه في الطبعة القادمة، رغم أن وظائف المقدمة من: خلفية تاريخية، تحديد أهمية الموضوع ومبررات اختياره، طريقة العرض والتناول، قد تمت الإشارة إليها في أماكن متفرقة بمداخل الفصول.
تناول الفصل الأول موضوع المقيمين مع إعطاء خلفية تاريخية طريفة تطرقت للتجار الحضارم ونبوغهم في أعمال كثيرة كتجارة الأغذية بالجملة.. ثم تسعود الكثير منهم.. وتطرق للطفرة النفطية وما تبعها من ظواهر مثل دخول الكثير من مواطني دول الشام الحقل التجاري..
وعرج على تداعيات الغزو العراقي للكويت ورحيل المقيمين اليمنيين.. وقد عرض الكتاب أعداد المقيمين وهيكل العمالة حسب النشاط الاقتصادي، وفرز الوظائف التي يقومون بها، وأوجه التصرف في دخولهم.. كل ذلك في جداول ورسوم بيانية إحصائية واضحة وسهلة الفهم ومفيدة جداً، عرضت ونوقشت بطريقة سلسة.
سياسات وأنظمة الاستثمار الأجنبي في المملكة كان عنوان الفصل الثاني الذي عرض خلاله تطبيق نظام الاستثمار الأجنبي وإشكاليات اختلاف المفاهيم، وقد طرحت الإشكاليات بطريقة تحتاج لتوضيح أكثر، حيث أدرجت بطريقة الأرقام.. أي الإشكالية الأولى فالثانية وهكذا، دون عناوين تسهل الفهم. وكقارئ لم أتمكن من استيعاب بعض تفاصيل هذه الإشكاليات، مثلاً الإشكالية الأولى وهي أن: «جميع الدول يتناول نظامها وضع الأجنبي «المستثمر ولا يتناول الأجنبي «الموظف» أو «المقيم»، وهذا أمر طبيعي..» فإذا كان أمراً طبيعياً فأين المشكلة؟
هل المقيمون ممنوعون من الاستثمار؟
كان هذا السؤال فاتحة الفصل الأخير، عرض من خلاله بعض الخلفيات التاريخية لموقف المجتمع المنغلق من هذه القضية، وقد تناول استثمار العقار والأسهم وسلبيات منع المقيمين من الاستثمار مما ساعد على الخلل الهيكلي في الاقتصاد الوطني، والتأثير السلبي على تدفقات الاستثمارات الخارجية وضعف الانتماء الاجتماعي للمقيمين والتستر.. إلخ.
ويُفصِّل في ظاهرة التستر متناولاً أسبابها ومدى انتشارها وآثارها السلبية اجتماعياً وأمنياً واقتصادياً وجهود مكافحتها.
وقد اقترح مجالات استثمار للمقيمين كالأسهم والعقار منبهاً أن فهوم «الاستثمار» بحاجة إلى توضيح فالاستثمار ليس مهنة تتعارض مع مهنة أخرى، ومن لديه فائض دخل فهو غالباً مستثمره بوسائل عديدة، دون أن يعني ذلك تحول وظيفته إلى «مستثمر»! فإن لم تتح له تلك الوسائل فإنه سيقوم بتحويل هذا الدخل للخارج لتتكون تلك المبالغ الهائلة التي نتحسر عليها دون التفكير في كيفية الحفاظ عليها.. ويزخر هذا الفصل بالكثير من آراء واسنتاجات وتعليقات مهمة للمؤلف وهي مثيرة للجدل وجديرة بالنقاش وممتعة.
ولعل أهم ما توصل إليه الكاتب هو عدم وجود قنوات محلية يمكن أن تستقطب - عملياً - جزءاً من مدخرات المقيمين (الموظفين).. وقد اقترح بعض الوسائل لذلك، كما اقترح تعديل صيغة ملكية المشاريع الحالية، بحيث تكون الاشتراطات حول سعودة الإدارة والتوظيف والتدريب، أما الملكية فيجب أن تفتح للقادرين على تحقيق هذه الاشتراطات، إذ إنه مثلاً يشترط في بعض المؤسسات الصحية أن تكون مملوكة لطبيب سعودي بغض النظر عن الإدارة والتوظيف، مما جعل كثيراً من المؤسسات مملوكة صورياً لسعوديين ويديرها أجانب غير متخصصين دون أن توظف أو تدرب سعودياً واحداً.
كتاب «الأجانب في السعودية..» ذو فائدة عظيمة في مجاله، إضافة لجدته وطرافته.
وتوقيت الكتاب كان مميزاً، ففي خضم النداءات والدعوات للإصلاح والانفتاح وتقبل الرأي الآخر المختلف من النواحي الفكرية والثقافية والاجتماعية.. كثيراً ما نهمل الانفتاح الاقتصادي الاستثماري من خطابنا الثقافي والفكري، رغم أن الاقتصاد قاعدة أساسية تبنى عليها كافة أشكال الإصلاح..
|