Monday 15th september,2003 11309العدد الأثنين 18 ,رجب 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

الرئة الثالثة الرئة الثالثة
طائرٌ من الشرق يفرُّ مع السحاب فوق نيويورك!
عبدالرحمن بن محمد السدحان

لأيام الدراسة بكل مراحلها، مكانٌ أثيرٌ على نفسي لا يبْلى، ولا يُملّ، وتأتي تجربةُ الدراسة في أمريكا قمةَ ذكريات لا تغيبُ شمسُها أبداً!
***
فقبل أكثر من ثلث قرن، رحلتُ إلى الولايات المتحدة الأمريكية مبتعثاً من وزارة المعارف للدراسة الجامعية، ولم أكن يومئذٍ أعرف شيئاً عن تلك الأرض البعيدة، سوى أنها عالم آخر تحدُّه هوليود غرباً، وناطحاتُ السّحاب شرقاً، وبينهما مصانعُ ومزارعُ ورعاةُ بقر، وبقايا هنود حمر!
***
كانت مدينة نيويورك هي مرسى الوصول إلى ضفاف العالم الجديد، وكانت صدمةً حضاريةً ونفسيةً لا تُنْسى، استولى عليّ يومئذ شعورُ تتقاسمه الرهبةُ والدهشةُ والعَجَب ممّا رأيتُ وسمعتُ في تلك المدينة، فهي تغفو وتصحُو وسط هدير البشَر والآلات، يكاد المرءُ من هوله يفقد القدرةَ على التمييز بين ليلِ المدينة ونهارها!
***
وسبق وصولي إلى نيويورك تجربةٌ قاسية امتزجتْ فيها الطرافةُ بالشّجن! عشْتُ وقائعَ تلك التجربة على متن الطائرة المقلّة لي من فرنكفورت إلى نيويورك، فقد جلس إلى جواري في الدرجة السياحية رجلٌ أمريكي أفريقيُّ الملامح، ضخمُ الجثة، فارعُ الطول، يلهثُ البصرُ وهو يتجوّل عَبْر خريطة جسده المنتشر فوق المقعد المجاور، تعمر هامتَه العملاقة قبّعة لم ينزعها مدة الرحلة، وتحجبُ بصرَه نظارةٌُ سوداء تغطِّي مساحةً عريضةً من وجهه المحفور بأخاديد القُبْح! كان (يلوك) سيجاراً لم يغادر فيه عبر الرحلة، وكان السيجار جبّاراً حتى لقد حَسِبتُ أنه صنع له بمواصفاتِ جسَده! وكان ينفثُ انفاسَه الملوّثة عبر المحيط الضيّق الفاصلِ بيني وبينه، فيضاعف من وحْشة المكان، ورهبة الموقف، ومرارة الغربة!
***
وعبثاً أحاول الانتقال إلى مقعد آخر هَرباً من الفضاء الملوّث بأنفاس (الغول) المتكوّم بجواري، فلا أفلح، لتعذّروجُود مقعدٍ خال، ولم أكن أحسنُ الحديث بالإنجليزية، حتى أبدِّدَ وحشتي بالثرثرة معه، أو أبلغَه بلطفٍ احتجاجي على تلويث أنفاسي بدُخَان سيجاره، ولم يكن لي ملاذٌ سوى الاعتصام بالصمت والصبر، وكنت بين الحين والآخر أرشقُه بنظرةٍ تختزلُ جزْءاً من اكتئابي واحتجاجي، فيتجاهلني تارةً، ويجاملني أخرى بابتسامةٍ بشعةٍ تنفرج عن أسنان عراضٍ كأنها رؤُوسُ حرابٍ غُرستْ في وحْل!
***
وألقي عصا الترحال أخيراً في سيرك العجائب نيويورك، فلا أدري إنْ كانت أيامي القليلة فيها، ضَغثَ حلم، أم كابوسَ خيال، أم مزيجاً منهما، كل ما أتذكّره الآن هو أنني هبطتُ نيويورك ثم أقلعتُ منها، وعينايَ مشدُوهتَان بكلّ ما صافحَمها من رموزٍ عملاقة، وخاطري مشدودٌ بلوعة الغربة! كنت طائراً من الشرق فقَد ريشه في أرض العجائب، وتاه منه كل شيء، أوْ هوَ تاهَ عن كل شيء، سوى غُصّة حنينٍ للأهل والوطن تسامرُ وجدانه!
***
ومن عجب.. أن الودّ ظلَّ مفقُوداً بيني وبين نيويورك.. منذ ذلك الحين.. رغم عودتي إليها مراراً سواءً عبر سنين الدراسة الجامعية أو بعدها، ولم أكن في كل مرة راغباً في العودة إليها.. بل مُكْرهاً لظرف عمل ونحوه، وكانت آخرُ زيارة ل (ناطحة السُحُب) نيويورك منذ نحو سبع سنوات تقريباً .. حين (أقنعتني) العائلةُ بالتوقّف فيها بضعةَ أيام! كانت تغلف فضاءَ وجداني سحابةٌ من غيظٍ وخوفٍ وقلق، ونحن ندنُو من مطار نيويورك، وحاولتُ مراراً أن (أفلسف) موقف الجفاء لنيويورك.. عليّ أقلع عن الخوف والغيظ والقلق..فلم أفلح.. ولم أقلعْ حتى الآن!
***
وقد اتفقت أخيراً مع نفسي على الظن بأنّ.. نيويورك واحدةٌ من المدن التي لا يمكن أن يُجمعَ الناس عليها، حُبّاً أو كُرْهاً، فإمّا أن تحبَّها حباً يعبر كلَّ الفصول، ويختصرُ المسافات.. فلا تحيدُ عنه أبداً.. أو تكرهها كُرهاً.. بمساحة الأفق وعُمق المحيط! وأظن أيضاً أن (علاقة الحب) مع نيويورك وغيرها من المدن لا يمكن أن تنشأ بين يوم وليلة، بل هي سمةٌ من الحميميّة المركّبة تنمُو مع الأيام.. حتى تتكوّنَ منها مظلّةٌ نفسيةٌ تغطّي عيوبَ المدينة وآثامَها!.
***
لا تسألوني اليوم ولا غداً ولا بعد حين عن سرّ غياب الودّ بيني وبين نيويورك .. ولن أسألَ بدوري عن سرّ المحبين لها، ولكن يبدو أن حبّ المدن.. كحبّ البشر، أمر لا يفرضه الطبع، ولا تروّضه العادة، ولا يمليه التقليدُ، وإنما تسيّره عشوائيةُ الصدفة، تُولد في لحظة.. فإمّا ماتَ الحبُّ بعد ذلك نطْفةً، أو عاش سعيداً!

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved