متابعة عبدالرحمن المصيبيح
شهد منزل معالي الفقيد محمد الصالح العذل - رحمه الله - طوال أمس وأمس الأول جموعاً من المعزين الذين توافدوا على المنزل مُعزين ومُشاطرين أهله الحزن وسائلين الله له المغفرة والرحمة.
والفقيد أحد رجال هذا الوطن الغالي، كرّس حياته في خدمة الدين ثم المليك والوطن.
كان الجميع يتحدثون عن خصال هذا الرجل ودماثة خلقه وتواضعه وسيرته العظيمة.وقد حاولنا الحديث مع أبنائه، ولكن عظم المصيبة والحزن الذي خيم على منزل الفقيد حالت دون الحصول على ذلك، لكن ابنه عبدالعزيز أرشدنا إلى آخر حديث أدلى به لمجلة تجارة الرياض في العدد رقم 470 في شهر شعبان لعام 1422هـ، هذا الحديث الشامل الذي أجراه رئيس تحرير المجلة الزميل فهد الفريان ننشره ليتعرف الجميع على شيء من سيرة هذا الرجل.وفيما يلي نص الحديث..
كان حازماً مع الأبناء في التعليم واكتساب العادات والتقاليد
أي مقام يمكن أن يصدق فيه القول المأثور «رب أخ لك لم تلده أمك» أكثر من تلك العلاقة التي امتدت أباً عن جد ولعقود طويلة، تستصحب وتلازم مسار التاريخ ومحطاته، تأخذ منه وتغذيه وتتشكل فيه معاني الارتباط بالناس والمكان.
وهذه الصفحات التي تحاول أن تسبر نزراً يسيراً من علاقة نادرة التكرار تتجذر عميقاً في وجدان التاريخ وتعكس كيمياء الارتباط والمسارات الباطنية البسيطة لسريان القيم بين القيادة والقاعدة.. وشيئاً فشيئاً تشكل هذا الهرم المتماسك من النسيج الاجتماعي مسنوداً بقواعده المتينة العقدية والاقتصادية.
وقبل أن نسترسل في حديثنا هذا الذي نعتبره من الأحاديث القلائل تقريباً مع واحد من أقرب الشهود على بدايات تشكل مشروع النهضة المؤسسية للبلاد معالي الشيخ محمد بن صالح العذل - أمد الله في عمره - نحاول أن نخرج على النص قليلاً..
أولاً: العفوية والتلقائية التي يعبر بها الشيخ محمد عن العلاقة الشخصية التي تعود بداياتها لمرحلة الطفولة مع خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - أيده الله - لها دلالات مهمة على عمق وتجذر القيم الفاضلة وعدم وجود الفوارق الاجتماعية بين أبناء هذا البلد..
ويكفي هنا الإشارة إلى أن خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - حفظه الله - قد شارك أقرانه من الأطفال في حينها ما كان متاحاً لأبناء الحي من اللعب والمغامرة والتجريب في مناخ اجتماعي صحي وآمن هيأه القائد المؤسس المغفور له الملك عبدالعزيز.
ثانياً: من الواضح أن الملك فهد - أعزه الله - كان منذ الطفولة متفرداً عن زملائه في اهتماماته وميله الواضح إلى الجدية ونفاذ الرؤية التي تجسدت في إصراره على حضور مجالس كبار مستشاري الملك عبدالعزيز، وقد لاحظ والده المغفور له هذه الرغبة الجارفة فسمح له بحضور جلسات المستشارين كمستمع وكان بذلك أصغر الحضور سناً.
ثالثاً: هناك معلومة ذات أهمية بالغة ترد في حديث الشيخ محمد العذل حول دور الملك فهد في المسيرة التعليمية، فقد قال - وهو بالطبع من أهم شهود تلك الحقبة لقربه الشديد وعلاقته الخاصة: إن الملك فهد كان ينتقد في مجالسه الخاصة أوضاع التعليم في البلد وعدم وجود المدارس النظامية وضرورة أن توجه الدولة قدراتها وإمكاناتها المتاحة للتوسع في التعليم.. ويبدو أن اختياره لحقيبة وزارة المعارف قد تم على هذه الخلفية وهذا ما يفسر النهضة التعليمية التي تبناها فيما بعد وزيراً وولياً للعهد ثم ملكاً.
رابعاً: من المهم التأكيد على أن مثل هذه الحوارات على عفويتها وشفافيتها ومع أشخاص مهمين من هذا الرعيل يمكن أن تقدم إضاءات تاريخية مهمة لسجل نهضتنا إذا قامت على أسس منهجية، ولا شك أن الشيخ محمد العذل يعد واحداً من المصادر المهمة لمثل هذا العمل التوثيقي خاصة أنه - أمد الله في عمره - لا يزال يتمتع بذاكرة حاضرة وقدرة مذهلة على الربط بين الأحداث.
وقد تركز حديثنا مع الشيخ محمد العذل على جوانب معينة وأغفل جوانب كثيرة سيمكن إن شاء الله استجلاؤها في مناسبات قادمة، وفيما يلي نص الحديث:
صالح باشا العذل كان من أهم مستشاري عبدالعزيز
الشيخ محمد بن صالح العذل من مواليد 1340هـ تقريباً وقد لازم خادم الحرمين الشريفين منذ الطفولة وإلى يومنا هذا.. وعندما كان لا يزال يافعاً لم يكمل بعد 17 عاماً من عمره، ولاه الملك عبدالعزيز أميراً على (الظفير) وهو الاسم الذي كان يطلق على مدينة الباحة الحالية، كما اختاره الملك عبدالعزيز فيما بعد أميراً على رجال ألمع، بناء على ترشيحات من أمير أبها في ذلك الوقت تركي السديري.
ويقول الشيخ محمد في هذا الصدد: اختيار الملك عبدالعزيز لاسمي من بين نخبة من الأسماء المرشحة كشخص مقبول ومناسب لتولي الإمارة رغم صغر سني.. اعتقد أنه تم إكراماً لمكانة والدي عنده، فقد كان من أقرب مستشاريه السياسيين وأول مندوب للملك عبدالعزيز لمهمات خارجية وكان يحمل لقب (الباشا) فقد كلفه بمقابلة السلطان العثماني مندوباً عنه في عام 1325هـ فمنحه لقب الباشا تقديراً لحنكته السياسية وقدرته على عرض ومناقشة الأمور السياسية والسيادية بحكمة ودراية بالأمور التاريخية.. كما كلفه الأتراك لمفاوضة الإنجليز في بعض المهام الرسمية فلعب بذلك ما يشبه دور السفير المتنقل في هذا العصر، وكان صالح باشا في مقام المستشار الخاص للملك عبدالعزيز في حضور مستشاري البادية من أمثال نايف بن بصيص، ومشاري بن بصيص، ومحمد بن سحيمي، وفيصل بن حشر.. وغيرهم - رحمهم الله جميعاً.
قرار الانتقال إلى الديوان
وعاد الشيخ محمد العذل من (الظفير) بعد فترة قصيرة (بين سنتين إلى ثلاث) إلى الرياض بناء على رغبة سمو الأمير فهد بن عبدالعزيز - حفظه الله - لاستئناف زمالة نشأت وترعرت منذ الطفولة المبكرة وبتوجيه من خادم الحرمين الشريفين التحق للعمل بوزارة الزراعة كمندوب لها في الرياض حينما كانت الوزارة في جدة. وعندما بدأ خادم الحرمين الشريفين بمزاولة أعماله في الديوان كنائب ثانٍ لرئيس مجلس الوزراء بجانب عمله كوزير للداخلية رغبه أن ينتقل للعمل بالديوان ولكن الشيخ محمد كان يبدي لسموه بأنه يفضل أن يستبقي ارتباطه بوزارة الزراعة.. حتى تولى سموه مقاليد الحكم فأصدر أمره الكريم بنقله إلى الديوان وأحسب أن ذلك كان من أوائل القرارات الملكية التي أصدرها في الأيام الأولى لتوليه - حفظه الله - المقاليد، وكان هو في ذلك الوقت بالمرتبة الخامسة عشرة ومنحه خادم الحرمين الشريفين المرتبة الممتازة التي ما زال عليها حتى الآن.
لعبنا في (دعلكة وذريا والبواقر) وركبنا الخيل
* العلاقة الشخصية التي ربطتكم مع الملك فهد كيف بدأت ومتى؟
- أنا أسن من الملك فهد - أعزه الله - بحوالي خمس سنوات وتربطني علاقة أخوة بالرضاعة مع أخي سمو الأمير سعد بن عبدالعزيز. وقد بدأت علاقتي بالملك فهد منذ أن كنا أطفالاً فقد تشاركنا في اللعب والأنس والدرس.. والطعام والشراب وكان معنا الأمير عبدالله بن محمد بن عبدالرحمن وهو يكبره بعام تقريباً، كنا نجتمع كثيراً كأطفال.. مرة في غار (دعلكة وذريا والبواقر) (منتزهات طبيعية على ضواحي الرياض) وكنا نذهب إليها ركوباً على ظهور الخيل فلم تكن تتوفر سيارات في ذلك الوقت.
انبثاق الطموح الكبير
* هل يمكن أن تصف لنا خصائص الشخصية المبكرة للملك فهد في ذلك الوقت حسب تصوركم كأطفال.. وماذا كان يحب أو لا يحب وماذا كان يفضل من الألعاب أو الاهتمامات المبكرة؟
- في تقديري حسب ما أذكر أن الملك فهد كان يتمتع بطموح كبير منذ صغره.. وكنا نلاحظ أنه لا يود مفارقة مجلس المغفور له الملك عبدالعزيز فكان يلازمه على صغر سنه على غير ما اعتاد عليه من هم في سنه من الأمراء. كان يأتي إلى المجلس من الصباح الباكر فإذا دخل المستشارون إلى المجلس الرسمي للملك عبدالعزيز ظل هو في الخارج مع بعض الملاصقين للملك مثل شلهوب والطبيشي.
ولاحظ الملك عبدالعزيز تكرار ذلك باستمرار ولمح فيه رغبته في المشاركة والاطلاع على الأمور ودخول المجلس الذي كان يضم آنذاك نخبة من الرجالات، منهم الملك سعود - رحمه الله - وفؤاد حمزة، وخالد (قرقري) والسعداوي.. فاستدعى الملك فهد وأبلغه بإمكان حضوره جلسات المجلس كمستمع.. ومنذ ذلك الوقت دخل مجلس شورى الملك عبدالعزيز وفي أول يوم لحضوره المجلس مال إليه الملك سعود وهمس له بأن هذا المكان لا يدخل إليه أحد إلا بإذن الملك فرد عليه الأمير فهد بأنه قد دخل بإذن الملك فقال: لقد أذن لي الملك بالدخول، فقال له الملك سعود: لا بأس إذا كان كذلك، فقد خشيت أن يتحدث إليك ويأمرك بالخروج. وبعد ذلك اعتاد على حضور مجلس الملك عبدالعزيز الخاص بأمور الشورى وتعلم كثيراً واكتسب من المعارف ما غذى طموحه وتطلعه الدائم.. ثم بعد ذلك في فترة لاحقة تم تعيينه وزيراً للمعارف عندما تشكلت الوزارات وهو من أمر بتعييني في وزارة الزراعة التي كان يشغلها سمو الأمير سلطان وعندما تركها الأمير سلطان لم يكن قد تم تخصيص راتب لي ثم تقرر راتب مقداره ألف ريال في عام 1374هـ.
قصة رحلة البر التي كادت تهلكهم
ويستطرد الشيخ محمد العذل.. من صفات الملك فهد أنه حليم وشجاع وحازم وأذكر واقعة حدثت في الطفولة عندما كنا في رحلة برية وحال السيل والأمطار دوننا ودون ضواحي الرياض وكان البرد قارساً ولم يكن معنا ما نتقي به هذا البرد لدرجة أن واحداً من مرافقينا قد توفي أمامنا من شدة البرد.
وقد نفد ما معنا من طعام وكان الملك فهد أكثرنا تماسكاً وشجاعة وظل يبحث عن وسيلة لخروجنا من تلك الأزمة فيجري هنا وهناك حتى لاحت قافلة صغيرة من جملين ورجل من الزلفي فلوح له فاتجه نحونا وإذا به يحمل بعض الأرز والطعام والماء والحطب وشراعاً وطلب الملك من سائقه أن يستقل جملاً من جمليه الى نقطة قريبة من الرياض حيث كان الملك عبدالعزيز قد أرسل مختصين لقص أثرنا والبحث عنا فرأوا السائق الذي كان قد اقترب منهم ولولا الله ثم حكمة الفهد وتماسكه وشجاعته لما استطعنا الخروج من تلك الورطة على الرغم من صغر سنه.
البر بالوالدين
ومن الخصائص الأصيلة المعروفة للملك فهد بره بوالدته وحبه لأسرته الكبيرة وارتباطه وحبه لشعبه وأبناء بلده.. وكان من عادته أن يجمع الإخوان والأخوات في كل ليلة عند والدته لتناول طعام العشاء على مائدتها واستمر هذا البرنامج حتى وفاتها وبعد وفاتها أصبح أفراد الأسرة يلتقون عنده في كل ليلة يبادلونه براً ببر في حب واحترام ومودة.
الإيثار والحرص على سلامة المرافقين في الرحلات
* ما الهوايات المحببة للملك فهد منذ أن كان طفلاً وظل يمارسها حتى بعد أن تقلد المناصب الرسمية؟
- كان يحب الخروج إلى البر منذ طفولته وظل يمارس هذه الهواية خاصة في مواسم الربيع ومن المواقع المحببة إلى نفسه (التنهات، الصمان، أم رقيبة)، ونجده هناك شديد الرغبة في تأمل معطيات الطبيعة واستنشاق، عبيرها الصافي بعيداً عن صخب المدينة، وقد رافقته منذ أن كان صغيراً في العديد من هذه الرحلات كما رافقته كذلك في سفراته ورحلاته الخارجية.. وأذكر أن أول سفرة خارجية لي معه كانت إلى لندن ثم بيروت ومنها سافرنا إلى الكويت وكان يومها - حفظه الله - وزيراً للداخلية لحضور افتتاح جامعة الكويت، وسافرت برفقته إلى العديد من دول العالم ومن عادة جلالته في كل رحلاته الداخلية والخارجية أنه حريص كل الحرص في الاطمئنان على راحة وسلامة مرافقيه ويتفقدهم ويأمر بتلبية احتياجاتهم.. وكما ذكرت فإنني متفرغ لمرافقته منذ توليه مقاليد الأمور في البلاد.. وهذا الموقع هو امتداد لما كان يحظى به والدي المغفور له صالح باشا العذل من مكانة ومعزة لدى الملك عبدالعزيز - رحمه الله - فقد أوصى بأن تؤول لي المكانة الأدبية وجميع ما رتبه لوالدي المغفور له الملك عبدالعزيز وقد احتسبت الدولة خدماتي منذ عام 1351هـ بالرغم من أن التحاقي الرسمي بالعمل بدأ من عام 1357هـ.
* كم استمرت إمارتك في الباحة؟
- لم تستمر خدمتي طويلاً في الباحة ولا أذكر المدة بالضبط ولكنها لا تتعدى الثلاثة أعوام.
من أقوى أسلحته الصمت الموحي
* هل هناك أشياء معينة أو أخطاء لا يتجاوز عنها الملك فهد إذا بدرت ممن يحيطون به.. أو أنها تثير غضبه؟
- طوال فترة مرافقتي له لم أشهده في ثورة غضب.. فهو رجل حليم واسع البال وإذا كدره شيء يفضل الصمت حتى إذا أحس الطرف الآخر بالخطأ الذي أتاه يعود الملك فهد ويبادر لاستسماحه والتخفيف من الأمر عليه بكلمات طيبة ولا يمضي إلا بعد أن يتأكد من أنه قد عاد إلى صفائه.
ولم يحدث أن انتقم من أحد أبداً وحتى لو أساؤوا إليه فلا يجازيهم إلا بالإحسان.
* ماذا تغير في حياته الخاصة بعد توليه الملك؟
- لم يتغير شيء في حياته أبداً فكما قلت فإن المجلس الرسمي مع الملك عبدالعزيز أكسبه نضجاً مبكراً وحنكة وتواضعاً في الشخصية وصارت لديه حصيلة من صفات والده المغفور له الملك عبدالعزيز.
مجالس لتبادل المعارف
* مجالسكم المبكرة مع سمو الأمير فهد في تلك المرحلة ماذا كانت اهتماماتها والحديث الذي كان يدور فيها؟
- كانت مجالس عامرة بتبادل المعارف ونقل الروايات والقصص بالمشافهة وإلقاء الشعر وتبادل الاستفسارات والأسئلة حول بعض القصص الأسطورية والتاريخية المشهورة والحديث عن ملاحم التوحيد وأخبار البادية.. إلخ. ومن أهم صفات الملك فهد أنه مستمع جيد وله قدرة مذهلة على استشفاف العبرة ونقاط الضعف في الرواية المسرودة وتقويمها ونقدها.
* كيف اعتاد الملك فهد على إنجاز مهامه ومسؤولياته الكبيرة وأي الأوقات يفضل أن يؤدي عمله؟
- يفضل عندما يريد أن ينجز عملاً مهماً ألا يدخل عليه أحد وفي أغلب الأوقات يمتد وقت عمله اليومي لأكثر من 12 ساعة حيث يبدأ عمله من 8 مساء إلى 8 صباحاً يخصصه لإنجاز الملفات الرسمية.
أما الأوقات النهارية فيخصصها للمهام البروتوكولية واستقبال ضيوف الدولة.
وما لا يعرفه الناس أن الملك فهد كان يفضل أن يباشر بنفسه جل الأمور المهمة، وكان لا يقتنع بجدوي المشروع المراد تنفيذه إلا إذا اطلع على جميع جوانبه.. وأذكر عندما أريد بناء كورنيش جدة وجاءه (الفارسي) ليعرض فكرة الكورنيش وأن هناك شركات أجنبية راغبة في تنفيذه على أحدث المواصفات طلب جلالته أن يشاهد الموقع على الطبيعة والمجسمات المعمولة وذهب بنفسه وكنت أرافقه وكان معنا (جمجوم) واقتنع بما شاهده وأعطى أوامره بالبدء في تنفيذ المشروع.
وقد ظل هذا ديدنه في جميع المشروعات الكبيرة التي شهدتها المملكة طوال العقدين بل وقبل ذلك عندما كان ولياً للعهد..
معلمه الأول الشيخ (ابن مصيبيح)
* نعود بك مرة أخرى إلى أيام الطفولة.. كيف كانت الرياض وقتها وكيف كنتم تقضون أوقاتكم وأين تلقيتم علومكم؟
- الرياض وقتها كانت هادئة ساكنة لا توجد بها سيارات ولا الزحام الذي نشاهده الآن، وكان الناس يتنقلون على الخيل والحمير.. وكنا نركب الخيل بعد العصر ونذهب إلى قصر الشمسية أو إلى أي مكان وأحياناً نركب الخيل في الصبح للتمشية والترويح هنا أو هناك.
الملك فهد تلقى علوم القرآن الكريم في البداية عن الشيخ (ابن مصيبيح) ثم عن الشيخ (ابن مفيريج) وأنا ختمت القرآن على يد (ابن مفيريج)... ثم جاءهم بالقصر شيخ لا يحضرني اسمه الآن، وبعد ذلك أقام المغفور له الملك عبدالعزيز أول مدرسة بالقصر واستقدم لها عدداً من العلماء أتذكر منهم (الشيخ حامد وأحمد العربي وعبدالله خياط)..
وقد درست معهم في هذه المدرسة لبعض الوقت وكان معنا عبدالرحمن بن حسن وعدد آخر من أبناء الرياض في ذلك الوقت.وكان الملك فهد مكباً ومهتماً بالدراسة وكان يتميز عنا باستيعابه السريع وبخطه الجميل.. وكنا جميعاً نحرص على العادات والتقاليد التي تميز بها أهل نجد واكتساب السلوك القويم.
أول مهمة رسمية خارجية حضور الجمعية العامة للأمم المتحدة
* هل تذكر أول مهمة خارجية كلف بها الملك فهد في أيامه الأولى؟
- أول سفرية رسمية كانت لأمريكا ضمن وفد برئاسة الملك فيصل وعضوية الملك خالد - رحمهما الله - وكانت بمناسبة انعقاد الجمعية العمومية للأمم المتحدة ولكن قبل ذلك سافر كثيراً إلى بيروت رافقته فيها بالإضافة إلى سفرية لندن التي أشرت إليها وهي كانت أول سفرية بالنسبة لي معه.
* ما ذكريات تلك الرحلة؟
- سافرنا على طائرة من نوع داكوتا ونزلنا في أثينا للتزود بالوقود ثم استأنفنا إلى لندن.
يهوى ركوب الخيل والسباحة
* هل كان الملك فهد يحب ممارسة نوع من الرياضة في مراحل الطفولة ومع بعدها؟
- كان يهوى السباحة وركوب الخيل بصفة خاصة وأحياناً كان يفضل المشي.
طبق الفول على الإفطار
* هل للملك عادات معينة في تناول طعامه وما الأطباق التي يفضلها؟
- الملك فهد ظل يتناول نفس طعام عامة الشعب وقد شاركناه نفس طبقه.. وغالباً ما نأكل الفول والخبز في الإفطار والمرق والكبسة في الغداء والعشاء.
من قصص التربية ومواقفها
* كيف كان يتعامل مع أبنائه في تربيتهم وتنشئتهم؟
- ظل حازماً مع أولاده حريصاً على تعليمهم وإكسابهم عادات وتقاليد البلد على نفس الأسلوب الذي كان يتعامل به معهم والده الملك عبدالعزيز، فكما ورد ذكره كان قريباً منه ويحرص على أن يتعلم منه كل شيء صبره وحزمه وحكمته وأبوته.. وكان الملك فهد لا يعطي أبناءه من المال إلا قدر حاجتهم ومخصصاتهم المحددة ولا يزيد عليها.. حتى ان الأمير فيصل - رحمه الله - طلب منه شراء بيت في أمريكا حتى استكمال دراسته هناك، فقال له: ما عندي لك بيت وعليك أن تدرس فقط.. فإذا أكملت دراستك وتعلمت فإن الحصول على البيت سهل بعد أن تتعلم.. وكان الملك فيصل يحب الأمير فيصل بن فهد - رحمهما الله - بشكل خاص واشترى الملك فيصل البيت للأمير فيصل في أمريكا، وكان الملك فهد غير مرتاح لذلك وقال للملك فيصل ما كنت أود أن تلبي طلبه وقد كنت دائماً تفضل العلم والدراسة على ترضية الأبناء بمثل هذه الطلبات ونحن معجبون بمنهجك ونريدهم أن يتعلموا ويقدروا العلم.
ولكن يبدو أن الملك فيصل كان واثقاً من أن الأبناء سيستفيدون من البيت على الوجه الذي أراده الملك فهد.. وبالفعل فإن هذا البيت درس فيه الأمير فيصل (الله يغفر له) ثم سكن فيه الأمير محمد ودرس.. ثم الأمير سعود ودرس، ثم الأمير سلطان ودرس.. وقد ظل الملك فهد حريصاً على تعليم أبنائه انطلاقاً من حرصه على تعليم أبناء المملكة عموماً فهو كما هو معروف رائد التعليم وأول وزير للمعارف وهو الذي دفع حركة التعليم في المملكة وأقام المدارس والجامعات وغيرها.
كذلك حرص الملك فهد على أن يكتسب الأبناء تقاليد وأعراف مجتمعنا الذي يقوم على الخلق والاستقامة فكان يحرص على حضور الأبناء لمجلسه والاستماع إلى ما يدور فيه من حديث وجلب لهم أهل العلم والتقوى حتى نشأوا بحمد الله كما أراد لهم أبوهم. وإذا أخطأ أحدهم كان يأخذهم بالتي هي أحسن ويبين لهم مضار الشيء ويرشدهم إلى الطريق الصحيح.
توسعة الحرمين الشريفين أقرب المشاريع إلى قلبه
* هل رافقتم الملك فهد في المناسبات الكثيرة التي كان يفتتح فيها المشاريع الكبيرة وهل تذكرون أهم المشاريع التي كان سعيداً بها ومتحمساً لها؟
- رافقته - أعزه الله - في معظم هذه المناسبات وكان أهم مشروع وأقربه إلى قلبه مشروع توسعة الحرمين الشريفين وقد حضرت معه وضع حجر الأساس للمشروع... وكما يعلم الناس فهو مشروع تاريخي عظيم لا يوازيه أي مشروع آخر في العالم، وقد ظل يتابع بنفسه خطوات تنفيذه خطوة خطوة حتى اكتمل كما نراه الآن ولذلك فأنا أعتبره أهم مشروع إلى قلبه بين آلاف المشروعات الكبيرة التي شهدتها المملكة في هذا العهد الميمون.
* هل تذكر يوم تقلد وزارة المعارف كيف كان شعوره وهل كان سعيداً بهذه المهمة الصعبة؟
- كان سعيداً جداً، فهو كعهدي به منذ الطفولة يحب التعليم، وكان منذ صغره يتمنى أن يرفع الله هذا البلد بالعلم، وعمل بحماس وجد لإيجاد أسس التعليم وتطوير الوزارة وفتح المدارس ولم تكن توجد مدارس بالرياض في ذلك الوقت باستثناء المدرسة التي أقيمت بالبطحاء (التذكارية) فأقام العديد من المدارس في الرياض والحجاز والقصيم على الرغم من أن بعض الأهالي لم يرحبوا في البداية بقيام المدارس ومع ذلك استمر في خطته لإنشاء المدارس وعندما قامت أدرك الناس أهميتها وأدخلوا أبناءهم فيها، وما نشاهده الآن من انتشار التعليم في كل أنحاء المملكة بذر بذرته الملك فهد عندما كان وزيراً للمعارف ثم تولاها بالرعاية والاهتمام والتوجيه حتى بعد انتقاله إلى مواقع المسؤولية الأخرى، وبعد أن أصبح ملكاً أشاع التعليم وطوره وأقام الجامعات التي تنتشر كلياتها في كل مكان.
وفي هذا المقام أتذكر أن الملك فهد في صغره وفي مجالسه الخاصة معنا ومع أصحابه كان ينتقد عدم وجود المدارس في البلد وأن الدولة يجب أن تولي عناية أكبر بالنواحي التعليمية لكن ظروف البلد في ذلك الوقت وشح الإمكانات كانت تحول دون ذلك.. وكان الملك فيصل - رحمه الله - يعرف أن الملك فهد في ذلك الوقت كان مشغولاً ومهموماً بأمور التعليم ويتحدث عنها كثيراً في المجلس، ولذلك فضل أن يوليه شؤون التعليم لثقة القيادة في ذلك الوقت بأن الأمير فهد هو أنسب من يتقلد هذه المهمة الصعبة وأكثر الناس حماسة وإيماناً بدور التعليم في النهوض بالدولة وقد كان له ما أراد حتى إذا جاء على سدة القيادة وجه الموارد الكافية لدفع تلك الأحلام إلى أرض الواقع.
|