في دوَّامة مشاغل العصر يتباعد الناس، ويغفل بعض الأصدقاء والأقارب عن بعض وقتاً من الزمن يطول أو يقصر، وفي طيَّات هذه الحالة «المعاصرة»، حالة التباعد تحدث مفاجآت كثيرة يصطدم بها الناس حينما يلتقون بعد غياب.
فكم من صديق مستور الحال، كثير العيال، قليل ذاتِ اليد يغيب عن صديقه زمناً، ثم يلتقيان، فيرى منه صديقه رجلاً آخر من حيث النعمة والثراء واختلاف الحال، وقد يتبع ذلك اختلاف واضح في طريقة التعامل، وفي مظاهر الورع والالتزام، وكم من أبٍ غفل عن ابنه زمناً - وأنا أعرف نماذج في المجتمع من هذا الصنف - حينما التقى بابنه، أو التفت إليه رأى المسافة بينهما كبيرة من حيث الأفكار والأخلاق وما يسمَّى «بالقناعات» وطريقة التفكير، وكم من صاحبٍ تبدَّلت حاله، واختلف مظهره، وتغيَّر مخبره في غفلةٍ من أصحابه فأصبح اللقاء بينهم صعباً بعد أن كانوا لايفترقون، ونحن نقصد باللقاء هنا اللقاءَ النفسي والروحي فهو الأهم في حياة البشر.
إننا نعيش عصر المؤثرات السريعة، المدهشة، عصر الأساليب التي تهزُّ المشاعر، وتسلب العقول، وتغيِّر النفوس، وتقلب الموازين عند كثيرٍ ممن يذوبون فيها، ويغرقون في بحارها.
كنت أقلب عدداً من المجَّلات «الصارخة» في ركن الصحف والمجلات في إحدى الأسواق الكبيرة، فهالني ما رأيت، صفحات مصقولة، وكتابات معلولة، وأفكارٌ هائمة، وصور لرجال ونساء ترسِّخ الشعور بالضياع، تُلطَّخ بها الغلافات والصفحات، أبرز ما فيها ألوان «الماكياج»، وانكسار نظرات الفتيات، وكلماتٌ مسطَّرة فيها، بينها وبين الأدب من التباعد مثل ما بين قلب شارون الجامد، وقلب أحمد ياسين المجاهد، إنها أبواب من أبواب الانحدار التي تلج منها الأجيال إلى عالم الضياع، وحالنا مع هذه المجلات هو حال الغفلة، كحالنا مع غيرها من الوسائل.
انه حصار رهيب، وهجمات خطيرة فضائية وإذاعية، وصحفيَّة، قادرة على تحطيم الأسوار، واختراق وسائل الدِّفاع، وإثارة الآلام والأوجاع.
هنا يكون اختلاس الأشخاص من قيمهم، وأفكارهم، ومبادئهم، وأخلاقهم الحسنة ممكناً، وهنا يفاجأ الناس ببعضهم حينما يلتقون فيرون المسافة بينهم بعيدة.
شابٌ متوقد الذكاء، حسن الخلق، صافي الذهن، محب للعلم، حريص على الثقافة سليم القلب، أعرفه معرفةً قويَّة، وأسعد بما هو عليه من الرغبة الصادق في بناء نفسه بناءً علمياً راسخاً، عيناه تتحدَّثان إليَّ دائماً بما في قلبه من المودة والصفاء والنَّقاء، علاقته في المرحلة الثانوية بالمعلمين الفضلاء، والزُّملاء المستقيمين رسَّخت معاني الخير في نفسه، كان نجاحُه من الثانوية متميِّزاً، وتوجَّه إلى إحدى الكليَّات العلمية، فهو بها جدير، ودرجاته تؤهله لذلك، وانطلق في دراسته الجامعية بروحه الصافية، وذهنه الحاضر، ونفسه المطمئنة، وسعدت بما كنت أراه من دأبه وحرصه على التفوق، ومع أن مشاغل الحياة تباعد بيننا أحياناً، إلاَّ أنني التقى به، وما هي إلا شهور حتى رأيت تغيُّراً واضحاً في صاحبي، وصورةً غائمة حلَّت محلَّ تلك الصورة الصافية، وأزعجني ما رأيت، فإنَّ لصفاء النفس وسلامة القلب نوراً يظهر في الوجه لا يخفى على الناظر إليه العارف به.
ولم يسعف الوقت بالحديث مع ذلك الشاب المتوثب، فقد رأيت المسافة تزداد بعداً، وعلمتُ أنَّ علاقةً عنيفة قد نشأت بينه وبين الإنترنت، فأخذته شَبَكات الطيف إلى عوالمها الغريبة العجيبة، تغيَّر المظهر، وغطَّت وجهَهُ الفتيَّ سحابةٌ توحي بأن وراء أكمة الفتى ما وراءها.
لقد أشاع روحاً من الحزن في نفسي، ومع ذلك فأملي كبير في أن يرجع إلى الموقع الأعلى لأن المسافة بينه وبين موقعه الجميل ليست بعيدةً كثيراً.
أقول له ولكل من تحاول وسائل الإغراء اختلاسه، ارجع إلى حيث كنت، فإنَّ الطرق الملتوية، تؤدي إلى الهاوية، رعاك الله وهداك، وإلى الخير قاد خطاك.
إشارة
من يملك النبع لن يحتاج من ظمأٍ
إلى الدِّلاء ولن يحتاج للقِرَب
|
|