للخلاف آداب وأخلاق يجمل الاتصاف بها والوقوف عليها للأخذ بها، من أبرزها:
أولاً: عدم التثريب بين المختلفين، فلستَ بأصدق إيماناً بالضرورة، ولا أوسعَ علماً، ولا أرجحَ عقلاً ممن تختلف معه، ولهذا قال يحيى بن سعيد: ما برح المستفتون يسألون، فيجيب هذا بالتحريم، وهذا بالإباحة، فلا يعتقد المُبيحُ أن المحرِّم هلك، ولا يعتقد المُحَرِّمُ ان المبيح هلك.
وكان الإمام أحمد يقول: ما عبر الجسر إلينا أفضل من إسحاق، وإن كنا نختلف معه في أشياء، فانه لم يزل الناس يخالف بعضهم بعضا.
كتب أحدهم رأياً في مسألة من المسائل الفقهية ونشرها، فقال له أحد المناقشين: لماذا تبحث هذه المسألة التي لم يبحثها العلماء من قبلك؟!
قال له: لقد بحثوها وأوسعوها بحثاً.
قال له: إذاً فلماذا تبحثها وقد بحثوها، ألا يكفيك بحثهم عما فعلت.
إن أفهام الرجال ليست وحياً، والمدارس الفقهية، أو المدارس الحركية ليست هي الإسلام، وإن كانت تنتسب إليه وترجع إليه.
وفي صحيح مسلم عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذَا أَمَّرَ أميراً على جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ في خَاصَّتِهِ بتَقْوى الله وَمَنْ مَعَهُ مِنَ المُسْلِمينَ خَيراً ثُمَّ قَالَ: «وَإِذَا حَاصرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وذِمَّةَ نَبِيِّهِ فَلاَ تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَلاَ ذِمَّةَ نَبِيِّهِ، وَلَكِنِ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ فَإِنَّكُمْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللَّّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِه. وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّّهِ فَلاَ تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّّهِ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ فإِنَّكَ لاَ تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لاَ».
لاحظ ان النبي صلى الله عليه وسلم يوصي رجلاً من أصحابه اختاره لقيادة الجيش، والنبي صلى الله عليه وسلم حاضر بين أظهُرهم، ويقول له: لا تنزل الناس على ذمة الله وذمة رسوله، ولا على حكم الله وحكم رسوله، لأنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله وحكم رسوله أم لا، ولقد سمعت بأذني غير مرة من يتكلم بمسألة قصارى ما يقال فيها: إنها اجتهادية، فيقول: أنا لا أتكلم من قبل نفسي أنا لا أقول برأيي، وإنما هذا منهج الله، هذا حكم الله سبحان الله الآخرون يأخذون من التوراة، يأخذون من الإنجيل، يأخذون من دانيال، يأخذون من الكتب السابقة المنسوخة! كلا، بل الجميع يدورون على كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم، ولكن يكون المعنى قابلاً لأكثر من اجتهاد، وأكثر من محمل، وأكثر من رأي.
يقول ابن القيم رحمه الله : لا يجوز ان يقول لما أداه إليه اجتهاد، ولم يظفر فيه بنص إن الله حرم هذا وأوجب هذا، أو هذا حكم الله.
ويقول ابن تيمية رحمه الله : ولكن كثيراً من النَّاسِ يَنْسُبُونَ ما يقولونه إلى الشَّرْعِ وليس من الشَّرعِ، بل يقولون ذلك إما جهلاً وإما غلطاً وإما عمداً وافتراءً.
إنه لا وصاية على الناس، ولا إلزام بمذهب معين، وقد عرض المنصور على إمام دار الهجرة مالك بن أنس أن يعمم كتاب الموطأ على الأمصار، وأن يلزم الناس بالأخذ به، والعمل بما احتواه، فنهاه عن ذلك، وقال: يا أمير المؤمنين! لا تفعل فان الناس قد سبقت إليهم أو سيقت إليهم أقاويل وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وعملوا بذلك، ودانوا به من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وإن ردهم عما اعتقدوه شديد فدع الناس وما هم عليه وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم.
ثانياً: الإنصاف كما قال عمار رضي الله عنه في صحيح البخاري: «ثَلاَتٌ مَنْ جمعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الإِيمَانَ: الإْنصَافُ مِنْ نَفْسِكَ، وبَذْلُ السَّلاَمِ للْعَالَمِ، والإِنْفَاقُ من الإِقْتَارِ».
والإنصاف خلق عزيز يقتضي أن تنزل الآخرين منزلة نفسك في الموقف، والإنصاف ضرورة، وله قواعد منها:
1 ان ما ثبت بيقين لا يزول إلا بيقين، فمن ثبت له أصل الإسلام لا يخرج من الإسلام ويحكم بكفره إلا بيقين، ومن ثبتت له السنة لا يخرج منها إلا بيقين، وهكذا من ثبت له شيء، فإنه لا ينزع منه إلا بيقين.
2 الخطأ في الحكم بالإيمان أهون من الخطأ في الحكم بالكفر، أي لو أنك حكمت لشخص بالإسلام بناء على ظاهر الحال، حتى لو كان من المنافقين مثلاً أو ليس كذلك، فان هذا أهون من أن تتسرع وتحكم على شخص بالكفر، ويكون ليس كذلك، فتقع في الوعيد «وَمَنْ دَعَا رَجُلاً بالكُفْرِ أَوْ قالَ: عَدُوَّ اللَّهِ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِلاَّ حَارَ عَلَيْهِ». أي رجع عليه..
3 في مسائل الاجتهاد لاتأثيم ولا هجران، وهذا ذكره ابن تيمية رحمه الله وهذا مذهب أهل السنة: أنهم لا يرون تأثيماً لكل من اجتهد في المسائل كلها من غير تفريق بين الأصول والفروع، فمن استفرغ وسعه في معرفة مراد الله عز وجل، وكان أهلاً لذلك، فإنه لا يأثم بهذا الاجتهاد بل هو بين أجر وأجرين، فلا تأثيم في مسائل الاجتهاد، ولا ينبغي ان يكون ثمة تهاجر بين المؤمنين.
4 التحفظ عن تكفير فرد بعينه أو لعنه، حتى لو كان من طائفة، أو كان من أصحاب قول، يصح ان يوصف انه كفر، وها هو الإمام أحمد رحمه الله كان يُكفّر الجهمية، ويكفر من يقول القرآن مخلوق، ومع ذلك لم يكفر أحداً منهم بعينه، لا المأمون ولا سواه، بل كان يدعو له، ويستغفر له، ويجعله في حل مما صنع فيه.
5 الأخذ بالظاهر، والله يتولى السرائر، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَثْقُبَ قُلُوبَ النَّاسِ، وَلاَ أَشُقَّ بُطُونَهُم».
6 تسلط الجهال على تكفير علماء المسلمين من أعظم المنكرات، ولقد اتفق أهل السنة على أن علماء المسلمين لا يجوز تكفيرهم بمجرد الخطأ، بل عامة المسلمين لا يجوز تكفيرهم بمجرد الخطأ، يقول ابن رجب رحمه الله : أكثر الأئمة غلطوا في مسائل يسيرة، مما لا يقدح في إمامتهم وعلمهم فكان ماذا؟ لقد انغمر ذلك في بحر علمهم، وحُسم مقصدهم، ونصرهم للدين، والانتصاب للتنقيب عن زلاتهم ليس محموداً ولا مشكوراً، لا سيما في فضول المسائل التي لا يضر فيها الخطأ، ولا ينفع فيها كشفه وبيانه.
والعجيب ان كثيراً من الناس قد يتحفظون ويتورعون عن أكل الحرام مثلاً ، أو عن شرب الخمر، أو عن مشاهدة الصور العارية والمحرمة، ولكن يصعب عليه كف لسانه، فتجده يَفْرِي في أعراض الأحياء والأموات ولا يبالي بما يقول، ولهذا قرر العلماء ان كلام الأقران بعضهم في بعض لا يُعبأ به، لا سيما إذا لاح انه لعداوة أو لمذهب أو لحسد، وما ينجو منه إلا من عصم الله.
قال الذهبي رحمه الله : ما علمت أن عصراً من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين، ولو شئتُ لسردت من ذلك كراريس.
سأل أحمد بن حنبل رحمه الله بعض الطلبة من أين أقبلتم؟ قالوا: جئنا من عند أبي كُريب، وكان أبو كُريب ينالُ من الإمام أحمد، وينتقده في مسائل، فقال نِعم الرجل الصالح! خذوا عنه وتلقوا عنه العلم، قالوا: إنه ينال منك ويتكلم فيك! قال أيُّ شيء حيلتي فيه، إنه رجلٌ قد ابتُلي بي. وحدث الأعمش عن زِرّ بن خُبيش وأبي وائل، وكان زر بن حُبيش علوياً، يميل الى علي بن أبي طالب، وكان أبو وائل عثمانياً، وكانوا أشد شيء تحاباً وتوادّاً في ذات الله عز وجل، وما تكلم أحدهما في الآخر قط حتى ماتا، ولم يحدث أبو وائل بحضرة زر، لأنه كان أكبر منه سناً، ولهذا قال الذهبي رحمه الله : وهو يترجم لأبي محمد بن حزم صاحب المُحلّى وشيخ الظاهرية، قال: ولي ميل لأبي محمد بن حزم، لمحبته للحديث الصحيح ومعرفته به، وإن كنت لا أوافقه في كثير مما يقول في الرجال والعلل، وفي المسائل البشعة في الفروع والأصول، وأقطع لاحظ قوله: وأقطع بخطئه في غير ما مسألة، ولكني لا أكفره ولا أضلله، وأرجو له العفو والمسامحة وللمسلمين، وأخضع لفرط ذكائه وسعة علومه.
إن من الإنصاف ان تقبل ما لدى خصمك من الحق والصواب، حتى لو كان فاسقاً، بل حتى لو كان مبدعاً، بل حتى لو كان كافراً. ولذلك استنكر ابن تيمية رحمه الله على بعض المنتسبين للسنة فرارهم من التصديق، أو الموافقة على حق يقوله بعض الفلاسفة، أو المتكلمين، بسبب النفرة والوحشة، أو إعراضهم عن بعض فضائل آل البيت، وقال رحمه الله : لا يجوز لنا إذا قال يهودي أو نصراني، فضلاً عن الرافضي قولاً فيه حق ان نتركه أو نرده كله، بل لا نرد إلا ما فيه من الباطل دون ما فيه من الحق.
ويقول الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله في تفسيره: إذا تكلم العالم على مقالات أهل البدع، فالواجب عليه أن يعطي كل ذي حق حقه، وأن يبين ما فيها من الحق والباطل، ويعتبر قربها من الحق وبعدها عنه..
وهكذا تلوح لك في هذه النصوص، أمارات الإنصاف والعدل، حتى مع الخصوم المباعدين، فضلاً عن الإخوة المتحابين.
وبهذا استمال النبي صلى الله عليه وسلم قلوب أعدائه، وعالج قسوتها وشماسها ونفارها، حتى لانت واستقادت وقبلت الحق، فالكلمة الطيبة والابتسامة الصادقة الصافية، والإحسان الى الآخرين بالقول والفعل، من أسباب زوال العداوة وتقارب القلوب: {(وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) } (فصلت:35)
لما قعد أبو حنيفة للتدريس، قال فيه مساور الوراق:
كُنَّا مِنَ الدِّينِ قَبْلَ اليَومِ فِي سِعَةٍ
حَتَّى بُلِينَا بِأَصْحَابِ الْمَقَاييسِ
قَومٌ إِذَا اجْتَمَعُوا صاحوا كأنهمُ
ثَعَالِبٌ ضَبَحَتْ بَيْنَ النَّوَاوِيسِ
فسمع أبو حنيفة بذلك، فأرسل له هدية، وكانت هذه الهدية رشوة، لكنها رشوة بطريقة شرعية صحيحة، فلما قبض الهدية قال:
إِذَا مَا النَّاسُ يَوْماً قَايَسُونَا
بِآبِدَةٍ مِنَ الفُتْيَا طَرِيفَهْ
أَتَنْنَاهُمْ بِمِقْيَاسٍ صَحِيحٍ
مُصِيبٍ مَنْ قِيَاسِ أَبِي حَنِيفَهْ
إِذَا سَمِعَ الفَقِيهُ بِهَا وَعَاهَا
وَأَوْدَعَهَا بِحِبْرٍ فِي صَحيفَهْ
ومن ذلك: ألا تكثر العتاب والمحاسبة، وفي صحيح البخاري: باب من لم يواجه الناس بالعتاب» وذكر فيه حديث عائشة قالت: صنع النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً فَرَخَّصَ فيه فَتَنَزّهَ عنْهُ قَوْمٌ فَبَلَغَ ذَلِكَ النّبيّ صلى الله عليه وسلم فَخَطَبَ فَحَمِدَ الله ثمَّ قَالَ: « مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنِ الشَّيءِ أَصْنَعُهُ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لأعْلَمُهُمْ باللَّهِ وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشّيَةً». ومن ذلك عدم الانتقام والتشفي، والانتصار للنفس.
رابعاً: عدم التعصب للمذهب أو الطريقة أو الشيخ أو الجماعة أو الطائفة أو الحزب، ولهذا قيل: «حُبكَ الشيء يعمِي وَيُصِمُّ» ، إن المتعصب أعمى، لا يعرف أعلى الوادي من أسفله، ولا يستطيع ان يميز الحق من الباطل، وقد يتحول المتعصب بنفس الحرارة ونفس القوة من محب الى مبغض، ولهذا قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما في سنن الترمذي، ويروى مرفوعاً، والموقوف أصح: «أَحبب حَبِيبَكَ هَوْناً ما عَسَى أنْ يَكُونَ بغيضك يوماً ما وَأَبْغضْ بغيضك هَونا ما عَسَى أنْ يَكونَ حَبيبكَ يوماً ما».
وقد يكون الغلو أحياناً، أو المبالغة، أو التعصب لأقوام، هم أشد ما يكونون بعداً عن ذلك وكراهية له، ولكنهم قد يبتلون بمن يتعصب لهم أو يغلو فيهم.
محمد بن يحيى النيسابوري مثلاً أخذه الحزن على الإمام أحمد لما مات في بغداد، فقال حقٌ على أهل كل بيت في بغداد ان يقيموا مناحة على موت الإمام أحمد، فقال الذهبي رحمه الله : إن النيسابوري تكلم بمقتضى الحزن، لا بمقتضى الشرع، وإلا فان النياحة منهيٌّ عنها في الشريعة.
وقال بعضهم في خُراسان يظنون ان الإمام أحمد من الملائكة، ليس من البشر.
وقال آخر: نظرة عندنا من أحمد تعدل عبادة سنة.
قال الذهبي: هذا غلو لا ينبغي.
لقد كان الإمام أحمد رحمه الله رجلاً متواضعاً، بعيداً عن التكلف، ولكنَّ هذه الأشياء قد تخرج من أقوام في حالة انفعال في حزن أو غيره، وبكل حال فهي أقوال مرذولة ينبغي اطّراحها والرد عليها وإنكارها، كما فعل الذهبي وغيره.
وقال محمد بن مصعب لسوط ضربه أحمد أكرم من أيام بشر الحافي كلها، فقال الذهبي رحمه الله بشر عظيم القدر كأحمد، ولا ندري وزن الأعمال، إنما هو عند الله تعالى واللّه أعلم بذلك.