Saturday 13th september,2003 11307العدد السبت 16 ,رجب 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

فتاوى أم آراء بشرية! فتاوى أم آراء بشرية!
عبد العزيز السماري

تناقلت وسائل الاعلام منذ فترة قصيرة فتوى أصدرتها لجنة الفتوى بالأزهر الشريف، مفادها ان مجلس الحكم العراقي «فاقد للشرعية الدينية والدنيوية»، وتحرم الفتوى على الدول العربية والاسلامية التعامل معه او مع أي دولة تتعامل معه، ثم نُقضت الفتوى بعد ايام من صدورها، حين اصدر مجمع البحوث الاسلامية الذي يرأسه الامام الاكبر الدكتور طنطاوي شيخ الازهر تعليمات جديدة للجنة الفتوى في الأزهر بالامتناع عن الفتوى في الاسئلة المتعلقة بالسياسة او تلك التي لها علاقة بالشؤون الداخلية بالدول الاخرى.
واصدار الفتوى ثم نقضها خلال ايام يعيد بذلك قضية متجددة عن مصداقية بعض «الفتاوى» وشرعيتها ومدة صلاحيتها في واقع متغير..، كما يثير نقض حكم الفتوى بعد صدورها كثير من الاسئلة وعلامات الاستفهام عند غير المتخصصين من امثالي، فنحن منذ نعومة اظفارنا اعتدنا تلقي فتاوى مصادرها مختلفة، ينشرها بين الناس جهراً أو سراً بعض دعاة وطلاب العلم الشرعي، وما يثير الارتباك أحياناً عند العامة تضاد أحكامها في الموقف من الظواهر الحديثة سواء كانت سياسية او اعلامية أو اجتماعية، مما يزرع بذور الشك احيانا في مدى شرعية ومصداقية وملاءمة تلك الفتوى للواقع او قطعية شرعيتها اذا تنافرت احداهن مع حكم الاخرى، ونظراً لخصوصية الثقافة الشرعية وغياب حرية التعبير في تلك الاجواء، لم نكن نملك الجرأة على السؤال أو طلب مزيد من الايضاح، مما أدى الى ظهور ثقافة شعبية غير متجانسة حيث تتداخل في مفاهيم عقلها الجمعي آراء الاجتهاد الشخصي او فتاوى البشر مع احكام الله سبحانه وتعالى، مما يفسح المجال لظهور مدارس جديدة وحركات تستغل بعض الاجتهادات ثم تروج لها كأدلة شرعية قطعية الثبوت لغاية في نفس يعقوب، برغم انها في الاصل لم تكن الا مجرد رأي لمجتهد وليس حكم الله الثابت في القضية المستجدة.
وزاد الامر غموضاً ان بعض علماء وطلبة العلم الشرعي كان يكتفي باصدار الاحكام من دون اسنادها لدليل شرعي من القرآن والسنة، فأحياناً قد لا تتجاوز الاجابة في بعض برامج الفتاوى عبارات مثل «هذا لا يجوز»، أو «لا يصح»، أو «حرام»، ولم يحدث أن سمعت يوما أن طلب المتلقي الدليل الشرعي على حكم المفتي في قضيته، او سأله عن ماهية حكمه في مسألته ان كان اجتهاداً شخصياً يحتمل الخطأ والصواب أم هو حكم الله سبحانه وتعالى الثابت.
والفتوى قائمة منذ فجر الاسلام، ولا تزال تحظى بنفس الأهمية والتقدير في هذه الأيام، وترك لنا العلماء السابقون كثيراً من كتب الفتاوى والنوازل التي زخرت بها المكتبة الاسلامية، وكانت وما تزال مصدراً من مصادر الاشعاع العلمي والحضاري الذي ترك بصماته في نهضة الامم ورقي الشعوب. فقد كانت منزلتها عظيمة، ومكانتها كبيرة، فمنها ما كان صريحاً و«بياناً لحكم الله - تعالى -» بمقتضى الادلة الشرعية على جهة العموم والشمول ومنها ما كان أحكاماً للمسائل المستجدة والتي لم يرد فيها حكم شرعي، والمتواتر عنها أن أحكامها المتداولة صدرت كاجتهاد من الفقهاء والعلماء وطلبة العلم الشرعي.
وهو ما يدخله الشيخ يوسف القرضاوي في باب الاجتهاد: «ان المسائل الاجتهادية التي اختلف فيها الائمة وتعددت فيها الآراء، لا يجوز فيها التشنيع والانكار على من اقتنع برأي منها وأخذ به. فمن كان من اهل الاجتهاد والقدرة على الترجيح بين الآراء، فلا يطالب شرعاً ان يعمل إلا بما انتهى إليه اجتهاده، فإن كان صواباً فهو مأجور أجرين: أجراً على اجتهاده، وأجراً علىN صابته الحق في المسألة، وإن كان اجتهاده خطأ فهو مأجور أيضاً، ولكنه أجر واحد، هو أجره على اجتهاده وتحريه. وأقصى ما يقوله مجتهد عن نفسه ما جاء عن الامام الشافعي رضي الله عنه: رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب. وكل مسألة ليس فيها نص قطعي الثبوت والدلالة فهي من مسائل الاجتهاد بيقين ومسألتنا من هذا النوع بلا ريب. ومن كان يسوغ له التقليد - ومعظم الناس كذلك - جاز له ان يقلد احد المذاهب المتبوعة، المتلقاة بالقبول لدى الامة، وهذا هو المستطاع بالنسبة لمثله فليس عنده أدوات الاجتهاد ولا شروطه».
وحين سئل عن مدى صحة القول المتداول عن تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان؟ قال ان الفتوى التي تعتمد على العرف والعادة والزمان والمكان تتغير بتغير الزمان والمكان والاشخاص ويقول فضيلة الشيخ نقلاً عن العلامة ابن القيم: «هذا فصل عظيم النفع جدا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة، اوجب من الحرج والمشقة، وتكليف ما لا سبيل اليه ما يعلم ان الشريعة الباهرة التي في اعلى رتب المصالح لا تأتي به، فان الشريعة مبناها واساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل الى الجور، وعن الرحمة الى ضدها، وعن المصلحة الى المفسدة، وعن الحكمة الى العبث، فليست من الشريعة وان ادخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها».
وهو ما يعني ان يتم التفريق بوضوح بين الاحكام القطعية واجتهاد العلماء في القضايا المستجدة، وإلا يسري على احكام الاجتهاد الشخصية قدسية وقطعية الدليل الشرعي الثابت، وان تبقى هذه الاحكام الاجتهادية خاضعة للمراجعة من العلماء وان صدرت رسميا، وقد يحدث الاختلاف في احكام القضايا الجديدة في العصر الحديث، فمثلا.. حدث اختلاف بين العلماء الرسميين في حكم نقل اعضاء الموتى، ولم يصدر قرار نهائي يحسم ذلك الاختلاف في الاجتهاد، وهناك من يجد في «رسمنة» الفتوى مهما كانت مصادرها عائقاً ضد مراجعة احكام الاجتهاد مرة اخرى، لكن الاخطر من ذلك حسب وجهة نظري ان تظل الفتوى متحررة من القيود في ظل غياب السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية المستقلة، حيث ستستغل في هذه الحالة مكانتها التاريخية وقدسيتها وسلطتها كوسيلة سهلة وفعالة تخدم اغراض الرموز الصاعدة، واداة مؤثرة تضفي مزيداً من المصداقية في خطب الزعامات الجديدة، وستظل ابوابها عرضة للتأويل والتفسير واستخراج الاحكام التي قد تناهض في المستقبل احكام الفتاوى الرسمية اذا لم يتم تطوير هيئات الفتاوى الرسمية الى مجالس تشريعية مستقلة تملك القدرة التشريعية على التأطير القانوني للآراء والاجتهادات المنهجية، وتوفر الحماية للمجتمع من أخطار ظاهرة الفتاوى البشرية!

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved