لا شك أن وجه العالم قد تغير بعد الحادي عشر من سبتمبر، ليس على مستوى العلاقات بين الدول التي قسمها الرئيس الأمريكي إلى فريقين معه أو ضده، في حين قسمها رئيس تنظيم القاعدة إلى فسطاطي الكفر والإيمان دون أن يترك كلاهما موضع قدم للفريق المعتدل أو المحايد الذي يشكل الغالبية حتى من الأمريكان انفسهم دوناً عن مواطني الدول الأخرى، أقول لقد تعدى ذلك إلى المستوى الفردي أيضاً حيث حلت الشبهة أو عدم الثقة محل الثقة في كل ما هو اسلامي فضلاً عن أن يكون عربياً وسعودياً بالتحديد، وحل الخوف مكان الأمن حيث من الممكن أن تواجه أي استدعاء للتحقيق لتزج في السجون دون أن تدري ما هي تهمتك ولا متى سيطلق سراحك، وحلت الشدة والصرامة مكان اللين واليسر في التعامل مع كل ما هو اسلامي، فمن مر على مطارات امريكا قبل الحادي عشر وقادته الخطى مرة أخرى لنفس المكان لما صدق ما يراه من تفتيش دقيق وصفوف طويلة أمام مكاتب التسجيل حتى ليتمنى انه يستطيع العودة على نفس الطائرة من حيث أتى، وإن كان التسجيل اصبح لزاماً على الجميع ولم يعد يختص بجنسية أو فئة معينة. وعلى النقيض من ذلك التعامل الرسمي وجدنا تعاملاً آخر يختلف بالكلية من المواطنين الأمريكان الذين نعيش بينهم وهو تعامل ود واحترام وصداقة في مجمله. وان كانت نفسياتهم تأثرت قليلاً بعد الأحداث الا أن تعاملهم معنا لم يختلف كثيراً. وكانوا حريصين على أمننا إلى درجة أن بعضهم دعانا إلى الاقامة معهم في منازلهم إلى أن تخف حدة الأزمة وتهدأ النفوس الغاضبة التي شحنها الاعلام بتغطيته السيئة للأحداث واستضافته لبعض المبغضين والمتطرفين الذين وجدوا في الأزمة فرصة لنفث سمومهم ضد كل ما هو عربي واسلامي. ولأن الفرصة اتيحت لي أن أعيش في أمريكا قبل الأزمة واثناءها وإلى اليوم فقد أحببت أن أكتب سرداً للأحداث والوقائع التي مررنا بها كسعوديين ساقتنا الأقدار لنعيش في هذا البلد ولنكون شهوداً على أزمة ما زلنا نعيش آثارها السيئة الى اليوم وربما طالت إلى الغد، ورغم بعدي عن موقع الحدث حيث يفصل كولورادو الولاية التي أعيش فيها عن موقع الأحداث في نيويورك وواشنطن ما يقارب الأربع ساعات بالطائرة إلا أني ما زلت داخل أمريكا أحس بنبض شارعها وردة فعل مواطنيها حينما هوجم وطنهم وقتل مواطنوهم.
فيما يلي سأسرد الأحداث كما عايشتها دون أن أتدخل فيها برأي أو تعليل أو تعليق وعساي أن أوفق في نقل صورة صادقة عما شاهدناه من مصاعب خلال الأزمة مع الاعتذار مقدماً لبعض الزملاء الذين سيرد ذكرهم في بعض الأسطر.
أمريكا ما قبل الحادي عشر من سبتمبر
دخلت أمريكا يوم عرفة 1421هـ الموافق للثالث من شهر مارس 2001، أي قبل أحداث سبتمبر بما يقارب الستة أشهر وبضعة أيام أمضيتها في دراسة اللغة الانجليزية في معهد جامعة كولورادو بمدينة فورت كولينز التي تبعد حوالي 60 ميلاً شمال مدينة دنفر عاصمة الولاية تخللتها عودتي للسعودية في نهاية شهر يوليو لاحضار عائلتي.
فبعد سفر طويل ومرهق من الرياض إلى جدة مروراً بمطار جيف كندي في نيويورك للترانزيت فقط وصلت برفقة الزميل عيسى العيسى إلى مطار دالاس في واشنطن الساعة العاشرة صباحاً والتي كان من المفترض أن نبقى فيها يومين لانهاء اجراءات فتح ملف لنا في الملحقية السعودية، إلا أننا عدلنا عن هذا حيث علمنا أن السفارة والملحقية ستكونان مغلقتين بمناسبة عيد الأضحى، فأخذنا تذاكر على خطوط اليونايتد في الساعة الثانية عشرة ظهراً إلى دنفر عاصمة الولاية التي تم ابتعاثنا لها. وقد استغربت كثيراً حينما لم يفتح موظفو الجمارك شنطنا وكل ما سألوه ان كان معنا طعام طازج؟ أومأنا برؤوسنا بالنفي ومررنا من أمامهم دون أن يلامسوا حقائبنا وان كنت أحمل في يدي اليسرى شنطة تفوح منها رائحة الهيل والزعفران اضافة إلى تمر الخلاص المحفوظ وهو غير ممنوع دخوله على كل حال، وموضع الغرابة اننا في بلادنا العربية التي قدر لي زيارتها انك تفتح الشنط وتقف بجانبها حتى يتكرم موظف الجمارك بالمرور ليقلب عاليها سافلها ويمضي وتتولى أنت ترتيب شنطك من جديد دون شكوى أو اعتراض.
اقلعت بنا طائرة اليونايتد باتجاه دنفر واعلن المذيع ان الرحلة ستصل الساعة الثانية ظهراً وحسبنا ان الرحلة تستغرق ساعتين الا انها في الحقيقة اخذت حوالي اربع ساعات لأننا لم نكن نعلم شيئاً عن فارق التوقيت بين الولايات، حيث تتقدم مدينة واشنطن العاصمة «وعموم ولايات الشرق East time» عن مدينة دنفر «وهو توقيت مناطق الجبالtime mountain» بساعتين، أي أننا سنصل في الرابعة بتوقيت واشنطن بلد الاقلاع وهو مادعا الزميل العيسى أن يعلق أن الكابتن ربما أراد أخذنا إلى جولة في المكسيك حينما تعدى الزمن الساعتين والنصف ولم تهبط الطائرة، حتى أننا سألنا احدى المضيفات عن السبب فأخبرتنا فنظرنا إلى بعضنا ضاحكين دون أن ندرك كبر مساحة هذه الدولة التي يفرق توقيت شرقها عن غربها ثلاث ساعات كاملة.
وصلنا إلى دنفر التي أمضينا فيها يومين سوياً ثم فارقت الزميل العيسى إلى مقر جامعتي في فورت كولينز لأبدأ الدراسة بعد اختبار تحديد المستوى في اللغة فكان ان تم قبولي في المستوى الثاني عدت بعدها إلى دنفر في اجازة الأسبوع الأول واشتريت سيارة ولم يكن معي إلا ربع المبلغ وهو ألف دولار، فقلت للبائع احجز السيارة حتى تصل الحوالة بكامل المبلغ من حسابي في السعودية بعد حوالي أربعة أيام، إلا أنني تفاجأت برده حيث قال خذ السيارة وادفع ما معك الآن وحينما تصلك الحوالة ادفع الباقي، دارت في رأسي ساعتها صورة بائعينا في النسيم فما لم تدفع كامل المبلغ فلا تحلم ولو مجرد الحلم أن تقود السيارة ولو حتى داخل المعرض، وتذكرت موقفاً لأحد الإخوة حيث أعطى شيكاً لصاحب المعرض وحينما هم بأخذ سيارته التي اشتراها أبلغه صاحب المعرض انه لا يمكن له أخذها حتى يتم صرف الشيك في الصباح لأننا متأخرون والبنوك اغلقت ابوابها هذا المساء فزمجر المشتري وتذمر إلا انه قبل بالأمر الواقع.
عموماً أخذت السيارة بعد أن علق البائع على زجاجها الخلفي رقماً كتبه على ورق من الكرتون وأعطاني كافة الأوراق والاستمارة وقال لي ان معي شهراً كاملاً انجز خلاله نقل الملكية وبالفعل فان الاجراءات الروتينية هنا أسهل مما توقعنا بكثير، ويمكن أن تقضي معظمها بالتلفون وان ذهبت بنفسك فالأمر لا يتعدى ربع ساعة فقط لقضاء ما تريد.
زيارة السفير
زارنا خلال هذه الفترة سمو الأمير بندر بن سلطان سفير خادم الحرمين الشريفين في واشنطن بدعوة من رئيس جامعة جريلي التي تبعد عن مدينتنا أقل من عشرين ميلاً ليكون متحدثاً في حفل الخريجين. رافق سموه الملحق الثقافي بسفارة خادم الحرمين الشريفين في واشنطن الأستاذ مزيد المزيد، ثم اجتمع سموه معنا لأكثر من ساعتين ناقشنا معه ما نريد من السفارة والملحقية هنا في أمريكا. وكان هذا اللقاء فرصة للتعرف على تواضع الأمير عن قرب حيث كان يمازح الطلبة كأبناء لسموه، حتى انه اعترض مازحاً على التصوير لأن أحد الزملاء كان يحاول أن يقف بجانب سموه في كل مرة نحاول تصويره فكان ان اعترض الأمير مازحاً ومشيراً إلى الزميل بأن يعطيه فرصة ليتصور الجميع مع سموه، وحينما همّ سموه بالانصراف أوصى ابناءه بأن يعكسوا صورة طيبة لدينهم وبلدهم من خلال تعاملهم ودراستهم كما أعطى سموه للطلبة أرقام هاتف مكتبه المباشر وكانت النتيجة أن ضم سموه أربعة من أبنائه الطلبة للبعثة وللدراسة على حساب سموه.
الثقة في التعامل
ما لفت نظري خلال هذه المدةالقصيرة التي امضيتها هنا هو التعامل بالثقة فيما بين الناس وأذكر أن أحد الأساتذة أو الاستاذات بالأصح في المعهد عنّفت أحد الزملاء لأنه جاء لأداء الاختبار وهو مريض فأخرجته وأمرته بالانصراف والراحة وأن يأخذ الامتحان متى كان مستعداً والحقيقة استغربت مثل هذا التعامل وأنا القادم من بيئة اذا ما تخلفت عن الاختبار فيجب ان تحضر ورقة طبية مصدقة من مستشفى حكومي حتى ينظر في أمرك فضلاً عن أن تتصل هاتفياً فقط وتبلغهم انك مريض ولن تستطيع الحضور لتجد الوصايا بالراحة التامة ومراجعة الطبيب وألا ترهق نفسك كما يحصل هنا، كما انك لن ترى الختم هنا يدمغ به على كل ورقة فيكفي ان تكون الورقة تحمل شعار الجامعة الرسمي ومذيلة بالتوقيع في أسفلها والمرة الوحيدة التي احتجنا فيها الختم عندما اعادت الملحقية السعودية أوراق تعويض صرف الدواء التي ارسلتها لهم لتعويضي مالياً بحجة انها غير مختومة وكان ان فوجئت موظفة المستشفى حينما طلبت منها ختم الأوراق بختم رسمي وسألتني من أي بلد أكون، وحيث لاحظت ان ملحقيتنا هنا استقدمت معها البيروقراطية المقيتة ولم تستفد من وجودها في بلد كل المعاملات فيه تقوم على الثقة حتى يتبين عكسها. والملاحظة أيضاً أن غالبية موظفي الملحقية هنا من الاخوة العرب غير السعوديين حيث لا تبلغ نسبة السعودة حسب مشاهدتي الا ما يقل عن 20%، واذكر انني حينما زرت الملحقية في العام الماضي كان التفتيش على باب الدخول صارماً ودقيقاً إلا ان رجل الأمن الذي أوكلت له عملية التفتيش كان من الاخوة السودانيين فكنت أقول له ضاحكاً اننا يجب أن نتبادل الأدوار وافتشك انا لاننا في الملحقية السعودية وليست السودانية، ولا أدري لماذا لا يوظف السعوديون في الملحقية مع ما فيها من الاغراءات الوظيفية والسكن والعلاج المجانيين واكتساب الخبرات في بلد بحجم أمريكا.
عموماً، كان كل شيء يسير سلساً ومتناسقاً ولم نر ما يعكر صفو الدراسة وهي الهدف الرئيسي الذي جئنا من أجله وكان ان انهيت المستويين الثاني والثالث وتوقفت الدراسة في أواخر شهر يوليو على أن نعود في نهاية شهر أغسطس لنبدأ فصلاً جديداً، واستغللت فرصة التوقف وعدت إلى المملكة لاحضار عائلتي وعدت إلى أمريكا بصحبة أولادي في السادس عشر من أغسطس قبل بداية الفصل الجديد بعشرة أيام تقريباً وكان المرور من الجمارك والجوازات لا يستغرق ثلاث دقائق أو أقل ولم نفتح شنطنا إلا في بيتنا بعد وصولنا مدينة فورت كولينز من جديد وبدأنا الدراسة على ما اذكر في الخامس والعشرين من أغسطس من نفس العام 2001 وان كنت اذكر اننا فقدنا احدى الشنط الصغيرة التي لم نجدها مع العفش حينما تسلمناه فكان ان عرضت علينا موظفة اليونايتد ورقة فيها صور متعددة لمختلف أنواع الشنط لنحدد شكل الشنطة المفقودة وكتبت العنوان وحينما أصبحنا وجدناهم أوصلوها إلى باب بيتنا الذي يبعد عن المطار حوالي 70 ميلاً ولن أتكلم بالطبع عن خطوطنا السعودية الموقرة فالمقارنة هنا ليست في صالحها على الاطلاق.
الثلاثاء الحادي عشر من سبتمبر 2001
كان يوماً عادياً في بدايته، استيقظت في الساعة الثامنة صباحاً كعادتي يومياً، تناولت قهوتي وذهبت إلى المحاضرة التي تبدأ الساعة التاسعة صباحاً، لم يلفت نظري أي جديد في الشارع ولا حركة الناس فكل الأمور كانت طبيعية وروتينية، دخلت المحاضرة الساعة التاسعة في مبنى مجاور لمبنى معهد اللغة وبدأت المدرسة تشرح كعادتها الا أن صوتها كان يعتريه بعض الحزن ولكني لم أهتم فلعل عندها ما يضايقها ولم أكن أعلم بشيء مما حدث فليس من عادتي فتح التلفزيون مبكراً، خرجنا من المحاضرة العاشرة صباحاً فقابلت عند بوابة الخروج الاخ محمد غراب من اليمن الشقيق وكان يدرس معي نفس المادة وفي نفس التوقيت الا انه في شعبة أخرى وسألني بسرعة «عبد الله هل علمت بما حدث؟» اجبته: لا، فقال: إن أمريكا تعرضت لهجوم بالطائرات هذا الصباح وإن مدرستهم كانت تبكي ولم تستطع ان تشرح.
ظننت الأمر بسيطاً أو أنه حادث طائرة بسيط فذهبت وهو الى مقر المعهد فلما دخلنا وجدنا المدرسات «وغالبية الأساتذة في المعهد من النساء» اجتمعن في غرفة السكرتيرة وكان بعضهن يبكي وقفت على الباب وحييتهن فرددن بصوت كله حزن وأسى، لم اسأل احداً منهن فقد كان الوضع لا يسمح بأي حديث، فانصرفت الى غرفة الكمبيوتر المخصصة للطلبة وتسمى هنا المعمل «LAP»، فوجدت مشرفي المعمل قد اداروا التلفزيون المعلق على جدار المعمل على قناة «السي ان ان» «CNN» وكان يتوسط الشاشة كتابة كبيرة داخل خط احمر تقول: «أمريكا تحت الهجوم» «America under attack» وفيها نقل مباشر للعمارات حينما بدأت تتساقط والناس يفرون في كل اتجاه، عرفت ان الأمر كبير وخطير، تخطيتهم باتجاه الكمبيوترات المخصصة للطلبة وكانت الساعة العاشرة والنصف صباحاً في كولورادو اي حوالي الثانية عشرة والنصف ظهراً في موقع الحدث في نيويورك وواشنطن، فتحت الإنترنت على المواقع العربية علّني اجد معلومات عن الحدث إلا ان غالبيتها اشارت للحدث دون أي تفاصيل فلا احد يدري للآن كم عدد الطائرات ولا اين وقعت بالتحديد فالمؤكد فقط هو عمارات التجارة الدولية ولم تنقل التلفزيونات أي صورة من مبنى البنتاجون الذي عرفنا لاحقا أنه ضرب أيضاً. جلست أقلب صفحات الإنترنت منتظراً محاضرة أخرى تبدأ الساعة الثانية عشرة والنصف ظهراً، كانت تدرسها لنا مديرة المعهد «ولعلني لم استوعب عظم الحدث جيداً في تلك اللحظة وإلا كنت ذهبت الى البيت وتركت هذه المحاضرة»، عموماً حضرت مديرة المعهد واجتمعت بنا وكانت مشاعرها مزيجاً من الفرح والبكاء، فهي فرحة لأن ابن اخيها الذي يعمل في مركز التجارة الدولية تأخر هذا اليوم في الذهاب الى العمل واتصل بها تواً ولم يصب بأذى، وحزينة بالطبع لما وقع لبلدها من هجوم ارهابي. بدأت الحديث لنا بأنها اجتمعت مع رؤساء الأقسام الأخرى بمدير الجامعة وناقشوا أمر حماية الطلبة واعطتنا تلفونات شرطة الجامعة وتلفون مكتبها وبيتها شخصياً وقالت لا تترددوا بالاتصال في حالة واجهتكم أية مشكلة، ونصحتنا بتقليل الخروج للأسواق إلا للضرورة وفي حالة تهجم علينا أي احد في الشارع فلنكن هادئين ولا نحاول الرد بعنف وإنما ان نتأسف لما حصل لبلده وامته «Iصm sorry about your country and about your victims» كما اشارت الى التقليل من التجمعات مع بعضنا البعض والحديث بلغتنا فربما سبب ذلك لنا مشكلة.
سألناها عن الحدث وكم عدد الطائرات ومن هو المتهم؟ لم تكن تدري بالتحديد ساعتها ولكنها اشركتنا في الحديث وسألت بدورها ان كان احد من الطلبة قد سمع بشيء لم تسمعه، قال احد الطلبة من كوريا انه سمع ان هناك ثماني طائرات، وقال آخر: انها ربما كانت اثنتي عشرة طائرة اما الفاعل فلا احد تحدث عنه وان كانت نظرات الطلبة الينا تشير الى انهم يريدون ان يقولوا انهم عرب ولكن لعلهم احترموا وجودنا فلم يقولوا شيئاً.
توقف الطيران وإغلاق السوق المالية
انتهت المحاضرة التي لم تشرح فيها شيئاً غير ما ذكرت، وعدت الى البيت والساعة قد تعدت الواحدة بقليل، فتحت التلفزيون وأخذت أقلب القنوات التي تشير الى Terrorist attack اخذت القاموس وترجمت الكلمة فإذا هي تعني هجوم ارهابي واخذت صور زعيم تنظيم القاعدة تتردد على الشاشة بين لحظة وأخرى.
لعلني إلى ساعتها لم استوعب الأمر فقد ذهبت في الثانية والنصف ظهرا الى محاضرتي الوحيدة في الجامعة وكانت يومي الثلاثاء والخميس من الثانية والنصف حتى قريب الرابعة عصراً، دخلت القاعة فإذا بها ثلاثة طلبة فقط وانا الرابع، من مجموع طلبة القاعة الذي يتجاوز الخمسة والعشرين طالبا. دخل الدكتور واعتذر في البداية لأن مدير الجامعة رأى استمرار الدراسة كالمعتاد ولأنه لم يكن هناك إلا اربعة طلاب فقط فستكون هذه المحاضرة للمراجعة والسؤال ان كان احد فاتته محاضرة سابقة ليعيد الدكتور اعطاء ملخص لمجملها.
عدت الى البيت وفتحت التلفاز الذي اعلن عن ايقاف حركة الطيران في كافة أنحاء امريكا وتحويل الطائرات القادمة الى كندا وكذلك اقفال السوق المالية الى الأمر الأخير وكانت الاتصالات من السعودية تتوالى بين الساعة والأخرى وكلها تشير علينا بسرعة العودة للوطن وبعضهم يسأل عما حدث وكنت اجيبهم بأننا لا ندري الى الآن ما الحقيقة.
اتصل علي بعد المغرب رئيس النادي السعودي الزميل فهد البادي مستفسرا عن احوالي وان كنت سمعت ان احدا من الزملاء اصيب بسوء، اجبته بلا واخبرني انه اتى تواً من المكتبة وان مجموعة كبيرة من الطلاب قد احاطت بالمكتبة يحملون الشموع والزهور في ايديهم تضامنا مع ضحايا هذا الهجوم. وعدت اتصل بالزملاء اتفقد احوالهم ووجدت الجميع بخير والحمد لله.
اتصلت أيضاً ببعض الزملاء في ولاية اوهايو القريبة من واشنطن وسألتهم عن الوضع فلم يجبني احد بأية تفاصيل لأنهم لا يعرفون ما حدث بالضبط، نصحتهم بتقليل الخروج وتحاشي التصادم مع أي احد ريثما تهدأ الأمور، اتصلت بالأخ المقدم غنيم المطيري في ولاية رود ايلاند وكان في دورة عسكرية ومن المقرر ان يغادر امريكا يوم الخميس الذي يلي ثلاثاء الضربة مباشرة بعد انتهاء مدة الدورة، اجابني بأنه وعائلته بخير وان كان لا يدري متى سيغادر لان الطيران الآن متوقف الى مدة لا يعلم إن كانت ستقصر أو ستطول.
بدأت الأخبار تتوالى وتأكد ان طائرتين اصطدمتا بالأبراج في نيويورك وثالثة سقطت في واشنطن ورابعة في ارض فضاء في بنسلفينيا، واخذ المذيعون يرددون اسم اسامة بن لادن كثيرا وبدأت احس الآن بالمأزق الذي سنكون فيه كسعوديين وكعرب ومسلمين.
أهلنا كانوا أكثر قلقاً
نمت متأخراً بعد أن قلبت القنوات وشاهدت كافة الأخبار وكانت عبارة «أمريكا تحت الهجوم» مازالت تتوسط شاشات القنوات الاخبارية جميعا ولم تزل إلا بعد عشرة أيام تقريباً، صحوت باكرا واتصلت على الملحقية ولا احد يرد لأنه لم يكن هناك دوام ذلك اليوم، احترت هل اذهب للمحاضرات ام لا، فقررت الذهاب لان استاذتنا ستأخذنا اليوم الى زيارة قاعة في الجامعة وسيشرح المحاضر فيها عن «البارادايم Paradigm» واقل ما فيها سأرى الزملاء والجامعة آمنة فلا خوف من الذهاب. وصلنا المعهد واجتمعنا بالاستاذة لنذهب سويا مشياً على الأقدام الى المحاضرة في القاعة التي لا تبعد كثيراً وكانت الاستاذة تنصحنا بحماية انفسنا وعوائلنا وان لا نتردد في الاتصال لو شاهدنا أي شخص مريب في ضواحي سكننا. وصلنا القاعة التي كان فيها ما يربو على 70 طالبا ووزع علينا مساعد المحاضر اوراقا قبل دخول المحاضر الذي دخل ورحب بنا كزائرين ثم سأل الطلبة ان كان لهم أقرباء ضمن الضحايا ثم تكلم عن الحادث وسأل ان كان احد عنده معلومات جديدة وفي النصف ساعة الأخير تكلم عن موضوع الدرس.
كان أكثر ما يضايقني مكالمات الأهل من السعودية الذين يوصوننا ويستعجلوننا بالعودة فمما سمعوا وشاهدوا في التلفزيونات اصبحوا أكثر قلقاً منا، وايضا ايقاف الطيران فنحن لا ندري ما سنواجه في الأيام القادمة ولو كانت المطارات مفتوحة لاستطعنا الخروج متى شعرنا بعدم الأمن.
في اليوم الثاني اخرج الجميع هنا أعلام أمريكا وعلقوها على بيوتهم وسياراتهم وصبغوا نوافذ بيوتهم بلون العلم الأمريكي، بل وعلقوا البروشات Plaque التي تحمل صورة العلم الوطني على «جاكيتاتهم» وملابسهم من الخارج وخرجت لافتة مطبوعة تلصق على الجدران والسيارات تقول «أمريكا نحن نقف America we stand» وأخرى كتب عليها «الله يرحم أمريكا God bless America» وغيرها من الشعارات وكأن البلد في حالة حرب.
صلاة الجمعة تحت الحراسة
في يوم الخميس لم اذهب للمحاضرات الصباحية في المعهد وقضيت فترة الصباح في الاتصالات ومشاهدة التلفزيون، وذهبت في الثانية والنصف للجامعة لحضور محاضرة التخصص الوحيدة التي معي في ذلك الفصل وكان عدد الحضور حوالي العشرة وعلى الأقل فهو افضل من المرة السابقة، وعدت للمنزل بعد المحاضرة واتصلت بالاخ المطيري مرة أخرى لأسأله عن سفره متى تحدد ولان فتح المطارات مهم عندي فمتى فتحت المطارات سأقرر ان كنت سأبقى او اعود للوطن ولكن الزميل المطيري لم يأته خبر اكيد حتى هذه اللحظة.
قللنا خروجنا للأسواق إلا نهاراً للضرورة وبمفردنا فقط دون عوائلنا الذين لزموا البيت ولم يغادروه إلا بعد حوالي اسبوعين أو أكثر، وفي اليوم التالي وهو يوم الجمعة حضرت صباحا للدروس في المعهد وعدت الى البيت حوالي الحادية عشرة صباحا واستعددت للذهاب الى المسجد لصلاة الجمعة، وصلت الى المسجد الثانية عشرة وربع تقريباً واذ ما يقارب الاربعمائة شخص يطوقون مسجدنا الصغير من الخارج من كل اتجاه فانتابني الخوف ليس على نفسي فأنا لم ادخل بعد ولكن على الزملاء داخل المسجد، اخذت دورة على المسجد بالسيارة فشاهدت ثلاث سيارات شرطة تقف بجوار المسجد من ثلاثة اتجاهات، اطمأننت قليلاً وترجلت باتجاه المسجد واخترقت الزحام ودخلت المسجد وزادت طمأنينتي حينما شاهدت بعضهم يحمل الورود في يده وعرفت انهم جاؤوا لمساندتنا وليس لشيء آخر مما توقعت. دخلت المسجد وشاهدت حوالي ستة من رجال الشرطة يقفون خلف الصفوف يحرسونهم وكان الإمام قد اقام الصلاة فدخلت معهم واكملت الصلاة، وعندما خرجنا انطلقت علينا الجموع الغفيرة من كل اتجاه وسلموا علينا وعانقونا وارتجل بعضهم كلمات طيبة بحقنا واننا جزء من هذا المجتمع ولسنا مسؤولين عما وقع من أحداث واهدونا باقات الورود واخذنا نتحدث معهم ورحبنا بهم وشكرناهم على مساندتهم لنا. واستمر حضور رجال الأمن الى مسجدنا اربع جمع متتالية على ما اظن لتفتيش المسجد وحراستنا حتى ننتهي من الصلاة، فقد وجد القائمون على المسجد ثلاث او اربع رسائل هاتفية تهدد بتفجير المسجد والاعتداء عليه فكان ان بلغوا الشرطة والتي قامت بواجبها نحونا خير قيام، وكذلك علمت ان الشرطة قامت بحراسة المساجد اوقات صلاة الجمع في غالبية الولايات الأخرى.
عرضت التلفزيونات يومها زيارة الرئيس بوش لفرق الانقاذ في مواقع الاحداث في نيويورك بعد ان القى في ذلك اليوم خطابا للأمة اعلن ان البلد في حالة حرب ستطول حتى يعاقب الفاعلين، وتوالت بعدها خطابات الرئيس الأمريكي التي يؤكد فيها على ان الحرب ليست ضد الإسلام وانما ستكون ضد هؤلاء المسؤولين عن الهجوم واذكر انه قطع احد خطاباته ورحب بأخت مسلمة كانت تلبس الحجاب ضمن الحضور وقال كلاما طيبا في حقها وفي حق المسلمين هنا وهذا ربما ساعد على امتصاص غليان الشارع هنا ولا سيما وان الرئيس الامريكي اعلن ان من يتعرض لأي من المسلمين هنا سيتعرض للعقوبات الرادعة.
حملة ضد المسلمين
تبينت الحقائق الآن، فقد اذاعت الأخبار اسماء المفجرين وجنسياتهم واندهشنا حينما علمنا ان 15 شخصاً منهم من السعودية، فقد كان لنا وضعنا الخاص في امريكا وكانت فيزا دخول امريكا لا تحتاج إلا ان تدفع الرسوم لتحصل عليها بسهولة دون مقابلة او غيرها وهو ما كان متطلبا على غير السعودي والخليجي عموماً. اتصل والدي محاولا اقناعي بالرجوع خوفا عليّ وعلى عائلتي فقلت له ان المطارات الان مقفلة ونحن لم نر ما يخيفنا - وكنت احاول ان اطمئنه وان لا يحس بقلقي - وعموما فإن ساءت الأمور فلكل حادث حديث، اذاعت نشرات الاخبار القبض على بعض السعوديين ومنهم الدكتور بدر الحازمي واخذوا في عرض صورته على الشاشات مراراً وهو ما زاد قلقنا وخوفنا، ثم اخذ الزملاء في مجموعة الايميل للنادي السعودي يرسلون لنا اخباراً لا تسر فقد ضرب احد السعوديين في حديقة منزله بينما هو جالس يذاكر، وقتل احد السيخ الهنود لأنه كان يلبس عمامة تشبه العمامة العربية، وتم القبض على مجموعة هنا واشخاص هناك، وان احد المساجد وجد فيه قنبلة وآخر في كليفلاند في اوهايو هوجم بسيارة دخلت الى منتصفه، وكانت هذه الأخبار تشعرنا بالقلق وان لم نر شيئاً في مدينتنا، فتحت الملحقية أبوابها وجعلوا لكل ولاية او اثنتين موظفاً مسؤولاً عن طلبتها وزودونا بأرقام هواتفهم الخاصة وفاكساتهم وأرقام مكاتبهم وارسلوا لنا نصائح يجب اتباعها بدقة في هذه الظروف العسيرة. كنت حريصاً ان اتصل على الاخ غنيم المطيري باستمرار فهو قد حزم شنطته ويبحث عن أية رحلة مغادرة وكان ان عملت له السفارة حجزاً على الخطوط السويسرية يوم الخميس وخرج من مطار بوسطن - أي بعد الحدث بحوالي عشرة أيام، اطمأننت قليلاً لأن الخطوط عاودت الطيران فأنا استطيع الخروج من امريكا في أي وقت اشاء الآن ولكني قررت ان لا أخرج فالفصل الدراسي في منتصفه تقريباً وسأضطر لو خرجت ان احذف المواد واعيد دراستها من جديد عندما اعود، واقنعت نفسي بالبقاء مهما كان الأمر.
خيار البقاء أو العودة
أعلنت الملحقية ان من اراد العودة فله ذلك لثلاثة أشهر ولن تحتسب من مدة ابتعاثه، وله ان يختار الخطوط القريبة منه لتنسق له الملحقية الحجز والتذاكر فالخطوط السعودية لم تستأنف رحلاتها بعد ولذا كان للشخص الخيار في اختيار الخطوط التي يريد لتصله التذكرة من الملحقية، وان كان اثار قلقنا ايضا تواتر بعض الأخبار عن رفض ركاب احدى الطائرات السفر في طائرة بها عربي فكان ان تم انزاله من الطائرة.
أصبح موظفو الملحقية يتواجدون في مكاتبهم على مدار الساعة لمساعدة الطلبة فيما يريدون ويردون على استفساراتهم ويطلبون منهم تبليغ الطلبة السعوديين الدارسين على حسابهم والذين لم تكن لهم علاقة مباشرة بالملحقية بتعليمات الملحقية. وعاد فعلاً مجموعة من الزملاء من مدينتنا ومن ولايات أخرى كثيرة وبقيت أنا مع من قرر البقاء من الزملاء هنا، وأصبحنا أكثر حرصاً على بعضنا ولو من خلال الاتصال فقط والسؤال عن الأحوال والجديد في الأوضاع، واذكر أنني زرت الزميل خالد الشمري في الساعة التاسعة مساء وكان أن تأخر الاخ ثويني الظفيري في العودة فأصابنا القلق عليه فالمكتبة التي خرج لها تغلق أبوابها في التاسعة مساء وفي العاشرة والنصف هممنا بإبلاغ الشرطة إلا ان الأخ ثويني عاد قبل ان نفعل فثرنا في وجهه وعنفناه على التأخر لأنه تركنا قلقين عليه فكان يجب على الأقل أن يتصل في حالة اراد التأخر. وفي هذه الأثناء عرضت بعض العوائل من الأصدقاء الأمريكان على بعض الزملاء ان يبقوا معهم في بيوتهم ريثما تهدأ الأمور إلا أنه لا أحد منهم فعل وشكرناهم على مشاعرهم الطيبة ونبل عواطفهم وهو ما يشعرنا بالأمان أكثر وان كنا أصبحنا أكثر لزاماً لبيوتنا ولم نعد نخرج بكثرة إلا لشراء الاحتياجات الضرورية ولم نعد نؤم المطاعم والأسواق العربية هنا إلا قليلاً.
أصبح اتصالنا بالملحقية شبه يومي لنسأل عن الجديد إلا أنهم لا يعرفون ماذا سيكون الوضع خلال الأيام القادمة وكانت نصائحهم بعدم الخروج ليلاً وعدم الخروج منفرداً ان امكن مع اعطائنا الخيار بين البقاء أو العودة بشرط ارسال أوراق حذف الفصل الدراسي الذي نحن فيه.
الحرب على الإرهاب
بعد ثمانية أو عشرة أيام تقريباً غيرت التلفزيونات الاخبارية هنا اللوحة التي تظهر على شاشتها تقول «أمريكا تحت الهجوم» إلى لوحة أخرى في نفس المستطيل الأحمر على الشاشة تحمل عبارة «الحرب على الإرهاب» War on terror، وبزغ نجم حاكم نيويورك في وقتها رودي جولياني فقد كانت له لقاءات شبه يومية مع معظم القنوات والف كتاباً حظي باقبال كبير بعد أن انتهت فترة عمله كحاكم لنيويورك، وأصبحت مصطلحات مثل «الوهابية» و«الجهاد» و«الحجاب» تتداول باستمرار على شاشات هذه القنوات، واستضافت القنوات بكثافة الأمريكان من أصل عربي أو مسلم مثل فريد زكريا وفؤاد عجمي وسامي العريان الذي فقد عمله في جامعة فلوريدا بعد مقابلة معه في قناة الفوكس نيوز وراغدة ضرغام المحررة بجريدة الحياة وغيرهم للحديث عن تنظيم القاعدة الذي خرج زعيمه على قناة الجزيرة بشريطه الأول واتبعه بالثاني وتتابعت الأشرطة حتى لم يبق أي مجال للتشكيك في ماهية الفاعلين، كما فتحت هذه القنوات أبوابها لعدد من المستشرقين وأساتذة التاريخ وكان ان تعرض بعضهم للإسلام بهجوم عنيف عمداً أو جهلاً، واستل بعضهم بعض الآيات الكريمة من القرآن التي نزلت في الجهاد دون فهم لنصها أو سبب ومناسبة نزولها، وظهر الحقد الدفين على ألسنة البعض كالذي نادى بالهجوم على الكعبة الشريفة بالقنابل أو من وصف العرب بالخنازير والحشرات وكان كل هذا يشعرنا بعدم تقبل المجتمع لنا ويزيد قلقنا وتوترنا.
بعد فترة قصيرة سقطت طائرة اليونايتد فوق حي في نيويورك فأحسسنا بالقلق أكثر إلا أن خوفنا تلاشى بعد أن أعلن ان السقوط نشأ لخلل تقني وليس هجوماً مدبراً، ثم تم القبض على صاحب الحذاء المفخخ إلا أنه بقي حادثاً فردياً وان كان صاحبه مسلماً وهو ما يزيد شعورنا بالاضطراب.
زوار الفجر
ترد علينا أيضاً زوار الفجر من أجهزة الاستخبارات والشرطة وان لم يشرفوني شخصياً بزياراتهم إلا أنهم زاروا مجموعة من الزملاء هنا، بدأ بنائب رئيس النادي السعودي وبعض الزملاء في مدينتنا، إلا أن زياراتهم كانت تسبق باعتذارات حارة مما سببوه من ازعاج واقتصرت مهمتهم على رؤية الأوراق الرسمية والتأكد من مشروعية الإقامة في أمريكا متبوعة ببعض الأسئلة ان كان الشخص يعرف احداً من التسعة عشر المتهمين باسقاط الطائرات على أبراج نيويورك وواشنطن ولم يجدوا ولله الحمد أي نقص في أوراق الزملاء فكان ان اوقفوا تلك الزيارات.
حملة إعلامية سعودية
قامت حكومة المملكة بحملة إعلامية لايضاح الصورة الحقيقية للإسلام ونشرت مقتطفات عن الإسلام الصحيح وعن السعودية وسياساتها في مجلتي التايم ونيوزويك الاسبوعيتين وكان ان بزع نجم الأخ عادل الجبير المستشار في ديوان ولي العهد من خلال لقاءاته مع القنوات الاخبارية هنا ومؤتمراته الصحفية بقوة حجته ومقدرته على المحاورة وتمكنه الكبير من استخدام اللغة الإنجليزية حتى أصبح وجها مألوفاً لم يعد يحتاج إلى تقديمه للمشاهد الأمريكي وكان قادراً على اعطاء إجابات مقنعة ووافية مع ما في بعض الأسئلة من الحساسية واحياناً الاستفزاز. ثم بدأت الحرب في أفغانستان وكان ان انشغلت القنوات بتغطية الحرب وقللت برامجها الحوارية عن أحداث سبتمبر وهو ما جعلنا نعود لحياتنا السابقة مع بعض الحذر، حيث بدأ الناس هنا العودة إلى حياتهم الطبيعية وازيلت أعلام أمريكا من على البيوت والسيارات وهدأت العاصفة وعاد كل شيء الى وضعه السابق ولم نعد نحس بالفارق بين أمريكا قبل وبعد 11 سبتمبر إلا عند العبور من المنافذ الرئيسية والمطارات، حيث التشديد في التفتيش وطول صفوف الانتظار عند هذه المعابر وفرض التسجيل لدى دوائر الهجرة كل عام وهو ما كانت دول الخليج عموماً مستثناة منه كما أصبح لزاماً على الشخص ان يزود هذه الدوائر بعنوانه الثابت في أمريكا خلال شهر من دخوله البلاد وخلال عشرة أيام فيما لو تغير عنوانه.
إدارة الأمن القومي
تم أيضاً استحداث دائرة الأمن القومي واختير توم ريدج لرئاستها، والتي قامت بإعادة ترتيب الأوضاع الداخلية أمنياً وكان من جهودها وجود ما يسمى بعلامة مستوى الخطر في التعرض لأي هجوم ارهابي آخر Terror alert وهو تقسيم بحسب الألوان التي تتراوح بين الأزرق وهو عدم وجود الخطر بتاتاً إلى الأحمر وهو الطوارئ أو قمة الخطر وان كانت الأمور لم تصل إلى هذين المستويين وبقيت تتراوح بين الأصفر والبرتقالي وكلاهما يعني امكانية التعرض للهجوم وان يكون المواطن واعيا ومتابعاً للأخبار والمستجدات إضافة إلى الاحتفاظ دائماً بمؤنة ثلاثة أيام على الأقل من الطعام والعلاج الضروريين.
وكان ان تم القبض على بعض الأشخاص هنا ليس للاشتباه بهم ولكن لأن قبولهم للدراسة كان في ولاية ويقيمون في ولايات أخرى منذ مدد طويلة حيث لم يكن الأمر بتلك الصعوبة قبل الأحداث وأصبح الشخص هنا يتحاشى الوقوع حتى في مخالفة مرورية فربما جرته لأمور هو في غنى عنها، وبعث نظام قديم لم يكن يطبق من قبل وهو أن يكون دخول الطلبة لأمريكا خلال شهر واحد قبل بداية الدراسة وكانت النتيجة ان طلب من أحد الزملاء هنا مغادرة أمريكا والدخول مرة أخرى لأنه دخل البلاد قبل أكثر من شهر من بداية الدراسة فحاول ان يخرج لكندا القريبة ويعود إلا أنه لم يستطع الحصول على فيزا لدخول كندا فاضطر أن يعود للسعودية ليلة واحدة ويعود مرة أخرى على طائرة الغد إلى أمريكا ليكون دخوله خلال مدة الشهر المقرر قبل الدراسة.
زيارة ولي العهد
ثم جاءت زيارة سمو ولي العهد الأمير عبدالله إلى أمريكا ومقابلته الرئيس الأمريكي في مزرعته في تكساس لتشعرنا بالاطمئنان أكثر فسموه لابد أن يبحث مع الرئيس الأمريكي مسألة أمن المواطنين السعوديين هنا كما حظيت هذه الزيارة بتغطية إعلامية كبيرة سيما وهي الأولى لسموه بعد أحداث سبتمبر وما أعقبها من أخذ ورد حول موقف السعودية من هذه الهجمات.
استمرت الأمور شبه هادئة لا يعكرها إلا خبر القبض على شخص هنا وآخر هناك ممن يشتبه في تورطهم في دعم الارهاب ومساندته، كما تعرض بعض الزملاء الذين عادوا في إجازة الصيف ذلك العام الى تأخير حصولهم على فيزا الدخول مرة أخرى لمواصلة دراستهم نتيجة لإعادة ترتيب إجراءات اعطاء الفيزا وكانت النتيجة ان تأخر بعضهم فصلاً دراسياً او اثنين في دراستهم وان كانت الجامعات هنا قدرت هذا الظرف الخارج عن ارادتهم ولم تتخذ أية إجراءات قد تضر بمستقبلهم الدراسي.
التسجيل لدى مكاتب الهجرة
جاء بعدها قرار ضرورة التسجيل لدى إدارات الهجرة في المدن المختلفة وكانت ان عينت السفارة السعودية هنا محامين لمرافقة الطلبة عند التسجيل ومراجعة أوراقهم قبل الذهاب الى التسجيل كما تكفلت بدفع مبلغ الكفالة عن أي طالب لأن من دخل ووجد لديه أية نقص أو مخالفة فلن يخرج إلا بدفع كفالة مالية، وسارت أمور التسجيل طبيعية إلا أن تشابه اسماء العوائل أوقع بعض الزملاء في مشكلة واذكر ان احد الزملاء تم القبض عليه لان اسمه الرباعي وتاريخ ميلاده كان مطابقاً لأحد المطلوبين فكان ان افهمهم بأن تاريخ الميلاد للسعوديين الذين لا يملكون شهادات ميلاد قد تم وضعه افتراضا في منتصف السنة الهجرية 1/7 وعندما يتم تحويله للميلادي فسيكون مطابقاً وكأن معظم السعوديين ولدوا في يوم واحد، أما الاسماء فالقبيلة الواحدة يحمل اسمها أكثر من عشرة أو عشرين ألف شخص وكان ان وجدوا بعض الفوارق بينه وبين الشخص المطلوب فأطلق سراحه، كما تم التشديد على وجوب تسجيل الحد الأدنى من الساعات لكل فصل دراسي وهو الأمر الذي لم يكن مشدداً عليه قبل الأحداث وهو ما عرض ايضاً بعض السعوديين للمساءلة لماذا لم يسجل الحد الأدنى في فصل دراسي سابق إلا ان الأمور في التسجيل كانت طبيعية وروتينية ولم يعكرها سوى العاملين اللذين ذكرتهما، كما عانيت شخصياً من تشابه الاسماء حيث تم ايقافي قبل ما يقارب الشهرين في مطار دنفر عندما كنت في رحلة داخلية الى كاليفورنيا ولم تطل مدة الايقاف بعد ان عادوا للملفات ووجدوا فارقاً في العمر ورقم الجواز بيني وبين الشخص المطلوب حيث التشابه في الاسمين الأول والأخير فقط.
البقاء في أمريكا
بقي ان أشير في الختام الى ان موضوع الحصول على الفيزا بإجراءاته الجديدة أصبح هاجساً يشغل بال الطلبة هنا، فمن الزملاء من تأخر حصوله على الفيزا وفاته فصل دراسي أو أكثر كما اشرت سابقاً، ومنهم من لم يستطع تجديد الفيزا الى اليوم، وكانت النتيجة ان قرر بعض الزملاء وخصوصاً من بقي على تخرجهم فصلان أو ثلاثة البقاء في أمريكا حتى انتهاء دراستهم لتلافي مشكلة عدم التأكد من الحصول على الفيزا مع ما في ذلك من المشقة وعدم رؤية الأهل والوطن والأحبة لأوقات طويلة.
(*) كولورادو - أمريكا
|