أشواق
كنا نسمع أو نقرأ عن ضجر الاجازة أو الفرح بالاجازة غير أننا صرنا نسمع مصطلحاً جديداً يسمى اكتئاب ما بعد الاجازة وهو يشبه مسمى اكتئاب ما بعد الولاة وإن كنت لا أدري إلى أي درجة تتشابه الحالة غير أنني عذرت من يشعرون بذلك النوع الغريب من الاكتئاب حين عزمت على العودة إلى الكتابة بعد انقطاع أسبوعين.
أعمى في غرناطة
هل أجدر بالرحمة والعطف من انسان حرم من نعمة الرؤيا في بلدة سقفها فيروز وأرضها كهرمان وصباياها حور وشبابها حريق، شمسها ياقوت وليلها ماس مصفى لها تاريخ ولا تتخلى عن أن تكون جزءاً من المستقبل.
ارحميني يا سيدتي فأنا أعمى في غرناطة..
هكذا كان أحد المحتاجين يستعطي المارة على طرقات تلك المدينة الفارهة بأنهارها الثلاثة التي تلعب على عبها نهر دارو وحنيل وبيرو، المتجبرة ببياض سلسلة جبال سيرا نقادا عند هامتها، المسربلة بأسراب العشاق القادمين إليها من أنحاء الأرض ليحيوا جمالها وليستمعوا إلى أسطورة التسامح والتعايش السلمي للفتح الإسلامي لبلاد الأندلس.. ولكن لماذا وحدها اللغة العربية غائبة عن ذلك المهرجان المعرفي الذي يمشي في موكبه سياح العالم، تجمعات سياحية من مختلف الأقطار وبمختلف الأعمار من طلاب المدارس والجامعات إلى نساء ورجال طاعنين في العمر يرتعون في ربوع التراث العربي الإسلامي وفي ملكوت ذاكرة تلك الحضارة الانسانية العظيمة التي عمرت ثمانية قرون متواصلة على الجزيرة الايبرية، وحدهم العرب يمشون فرادى في ممرات الذكرى لا صوت يؤنس وحدتهم ولا كلمة تجبر كبرياءهم المكسور على عرائش بساتين أجدادهم وعلى جدران القصور التي كتبت أسطورتها بآيات من نور من كتابهم الكريم ومن عيون شعر وحده الشاهد على حرقة الصمت التي تتآكل وجودهم الغريب هناك. لغات تتناغم أو تتنافر حروفها ولكنها كلها تملك الحق في التعبير عن نفسها داخل أرخبيل هذاالفضاء التاريخي. التقط اللغات الدائرة حولي مرة من أصوات الحروف الطائرة نشوى لا تعبأ بحرارة هواء أواخر شهر آب ومرة من ملامح التجمعات التي تستمع لصوت المرشد السياحي بدهشة لا يغار أي منهم من إظهارها، من تلك اللغات التي كانت تزهو بوجودها في حاضرة الأندلس، اللغة الصينية، اليابانية، الفرنسية، الألمانية، الإيطالية، التركية، الانجليزية والاسبانية بالطبع ولغات أخرى وأخرى يتمتع أصحابها بالاستماع إلى خرير الماء بينما كان على العدد القليل من العرب الذين قادتهم صبابات القلب إلى تلك البقاع أن ينقبوا عن أثر الماء باتباع قيافة الأثر أو تتبع قطرات الدمع الذي كان يفيض من عيونهم من فجيعة ووجع فداحة الخسارة التاريخية للمرة الثالثة مرة على حدود بوردو بفرنسا ومرة على هضبة التنهدات ومرة على هذا الحضور المهيض في العالم وفي الأوطان من مطلع القرن الماضي إلى مطلع القرن الحالي.
للمرة الثالثة في حياتي تقودني خطواتي عن سابق تخطيط واصرار إلى كمين هذا المكان وفضائه وكأنني أتعمد استجراح الجمر أو التشبث بعدم اندمال نافورة الدم تحت ركام الرماد، أو لعلي هذه المرة بالذات أريد أن أنقل عدوى عشق هذا المكان والمكائد المتبادلة بينه وبين الذاكرة إلى أبنائي فنحافظ على جينات التفجع ومقاومة النسيان عبر السلالات المتتالية، أعبر بوابة العدل ببوابتها المفتوحة على هيئة أقواس النصر وأقاوم الاحساس بالهزيمة الذي يتلبس جيلي لأقف بمقصورة المحكمة وأسمع أصوات من كانوا تتردد في الأرجاء، أهرب وجهي من العيون التي لا يصافح أصحابها الوجوه التي أصافح ولا يسمعون الأصوات التي أسمع إلى الكوة في آخر المحكمة التي تستضيف الناظر بمناظر خضراء خلابة من غرناطة، من شمال المقصورة أكمل مشواري الذي يقودني إلى ما يعرف بالغرفة الذهبية التي ربما سميت بهذا الاسم لتربع الشمس في جميع أرجائها، أمر عبر قنطرتي قاعة أشجار الآس باعمدتها الشامخة وأتوقف عند أحواض المرمر وأغطي يديَّ فيما كان يفور من ماء، بعد الخروج من الرواق الشمالي أذهب إلى شرفة البركة التي تتقدم قاعة العرش التي كانت لانتظار الراغبين في اللقاء الملكي الذي كان يعقد في قاعة السفراء وهي آية جمالية أخرى من آيات المعمار الأندلسي بنقوشها الجصية الفاتنة على الجدران والآجر المطعم بخشب الأرز في السقوف غير أن حاسة الانكسارات تصر على تجريح مجد المشهد فهذه القاعة كما كتب هي نفسها التي شهدت الموافقة على الانسحاب وتسليم غرناطة للملكية الكاثوليكية فلا أجد إلا أن أحتمي من حرقة الماضي بحرائق الحاضر وضبابيته وغموضه المستقبلي ويبقى أن هذه النظرة الخاطفة ليست إلا رفة جناح في قصر الحمرا قصر النصر وجنة العريف من جنان الأندلس.
ومع أني في كل المرات السابقة كنت أعلج سؤال غياب اللغة العربية وأترك مواده الكاوية تسيل على لثتي وتختلط بلعابي مفترضة أن اجابته تكمن في «الحالة العربية» فقد قررت هذه المرة أن أقحم أحداً معي في أرق السؤال. لم تكل كفي عن الطرق على تلك النوافذ الزجاجية للعاملين في قصر الحمرا أطلبهم مطبوعة مكتوبة بالعربي دون جدوى وأجادلهم في سبب عدم وجودها، أشاروا عليّ أن أبحث في تلك المكتبة الصغيرة المرمية عند مدخل البساتين فلم أجد بين عشرات الكتب التي كانت تحكي قصة الفتح الأندلسي لاسبانيا بشتى لغات العالم وتضع الشروحات النفسية والسياسية والاجتماعية لمعماره أي كتاب باللغة العربية يشفي غليل الباحث من لوثة الحسرات بترياق معرفي أو قراءة جديدة، ومما يلفت الانتباه ويثير الحنق أن بعض مما هو مكتوب باللغة الانجليزية من تلك الكتب مما قرأت شيئاً منها كتب مغرقة في القراءة الاستشراقية التي لا تخلو من تحامل على تلك المرحلة من التاريخ الأوروبي، وإن كان هناك عدد من الكتب الحديثة الصادر للتو «نهاية التسعينيات وبداية الألفية» بشروحاتها وصورها وفيها محاولات ملفتة لتقديم قراءة معاصرة لذلك الحيز التاريخي مما كتبه كتاب شباب من أسبانيا وخارجها. فلماذا تغيب أي قراءة عربية إسلامية حديثة عن ساحة الحضور والحوار، لماذا لم تنجح أو لم تحاول منظمات الثقافة العربية الرسمية والأهلية أو الجامعات من تحقيق ولو وجود رمزي على هامش ذلك النهر المعرفي الجاري على أرض الأندلس من مئات السنين وكيف لم تجر اتفاقية ثقافية واحدة بين دولة اسبانيا وبين أي من الدول العربية تسمح بأن يكون هناك مطبوعة واحدة تحكي باللغة العربية عن ذلك الصرح الحضاري الذي ينتمي إلى الحضارة العربية الإسلامية؟ هذه الأسئلة وغيرها كثير مما تخنقه العبرات في الحنجرة لا جواب له في الزمن المنظور على ما يبدو، ويجدر بي أن أذكر في هذا السياق بذلك الموقف النقدي الذي يطرحه أميلو جارثيا جومث في ترجمته الاسبانية لكتاب المستشرق الفرنسي ليفي بروفنسال المعنون «تاريخ اسبانيا الإسلامية 11 7 - 1031» وفيه يقول بأن معظم المهتمين بحقل الدراسات التاريخية الأسبانية في العصر الوسيط «أجانب وأسبان» يجهلون اللغة العربية باستثناء بالطبع المرتبطون بمدرسة طليلة للترجمة وهذا يجعل ليس بمقدورهم رغم تميز بعضهم التحليلي وتفانيه المعرفي التعامل مع المصادر والوثائق المكتوبة باللغة العربية مما يجعل مراجعهم قصراً على ما كتب بلغات غير عربية وهي أقل تفصيلاً وغنى معرفي من المصادر العربية القديمة الخاصة بتاريخ اسبانيا المسلمة.
وقبل أن أخرج من جنة العريف وقصر النصر وساحة الحمر وأزقة القصبة ودكات سوق الحرير «القيصرية» تلاحقني موسيقى زرياب وشعر الموشحات الأندلسية وأطياف ولادة وياقوت الرمانة رمز غرناطة افتح سؤالاً ما قبل أخير طالما كان مثار جدل عن أثر الوجود العربي الإسلامي في أسبانيا على مدار ثمانمائة سنة مما طرحه أميلو جارثيا جومث، ولا يجد جارثيا في نهاية نقاشه لذلك السؤال مفرا من القول بأنه يجب الاعتراف بشجاعة بأنه بفضل الخلافة الإسلامية في الأندلس تمكنت أسبانيا من اضافة صفحات مشرفة ناصعة لتاريخها الجامد الجاف وأمكنها التعرف على ثقافة رفيعة لا نظير لها في عالم الغرب قبل عصر النهضة كما أنها تحولت بفضلها إلى رباط يصل ما بين الحضارتين الكبيرتين للعصور الوسطى وإلى جسر عبر فوقه القسط الأعظم من العوامل التي أهلت أوروبا لتولي زمام الحركة الانسانية»، أما السؤال الذي لن يكون في حكم السؤال الأخير فهو السؤال الذي طالما تجنبنا أن يكون مثار جدل وهو ما الذي يجعلنا اليوم نقف وآبار البترول تكاد تصير خلفنا وحراب العدو في ظهورنا ونحورنا دون أن نستطيع تحريك ساكن من المحيط إلى الخليج، فلا حول ولا قوة إلا بالله ولا غالب إلا الله.
مالقا وتورملينس، ماربيا وبورتو بونس
بينما يشح عدد السياح العرب وخاصة من أقطار الخليج في غرناطة وقرطبة تعج بهم فنادق وشقق ويخوت تلك المناطق الساحلية على شاطئ البحر المتوسط باسبانيا، وبينما تشكو اللغة العربية من الغربة في المواقع التاريخية فإن تلك اللغة تعاني من شيء غير قليل من التشويه والتكسير بما لا يخفف من معاناة الغربة تماماً، فهناك بعض المطاعم والمحلات التجارية التي تجتهد في كتابة أسماء وصفات بعض معروضاتها بلغة عربية نافرة بغرض جذب تلك الأعداد الكبيرة من سياح منطقة الخليج، ولو قدر لدراسة اجتماعية أن تجرى على هؤلاء السياح فربما تتوصل إلى أننا نوع «فريد» من سياح العالم وأن وجدت بعض الاختلافات المعيارية بين سياح شارع إديجير روود بلندن وسياح بورتو بونس باسبانيا، فنحن لا ننتقل إلى المناطق السياحية بغرض التغيير والاطلاع بل بغرض على ما يبدو أن نجرب قدرتنا على أن نعيش نفس روتيننا الحياتي في مكان آخر مع نقل أكبر قدر من سلبيات ذلك الروتين، سهر الأطفال إلى ساعات متأخرة من الليل على شواطئ وفي حدائق شبه معتمة وشبه خالية إلا منا، تجمعات «الشغالات» بنفس ملابسهن الكروهات المبتاعة من أسواق العويس يثرثرن بأسرار الأسر حول الأطفال في مطاعم «ماكدونالدز» و«برجر كنج»، قضاء الفتيات لمعظم ساعات الصحو في الأسواق والمحلات التجارية ذات الماركات العالمية التي تعج بها أسواقنا ربما بغرض ألا يفقدن اللياقة على ممارسة تلك العادة العزيزة، تجوال الشباب في تلك الأسواق وحول تلك المحلات حاملين الجوالات، تجمع السيدات في مطاعم لا يختلفن عنها إلى غيرها ربما بغرض ايجاد نقطة مركاز يومية لتلك التجمعات والحديث لا يخرج عن «الحش» في الشغالات وأنواع الريجيم وآخر الموديلات، مقابل نقاط التجمع الرجالية في مكان آخر تلاحقهم لعنة أحاديث السياسة وصيحة البورصة وأحصنة السيارات، سهر في لعب الكوتشينة أو قرقرة الأرجيلة وأكل المكسرات وغيرها من السكاكر المسمنة إلى وجه الفجر ونهار لا يبدأ الا مع اقتراب الغروب وفي موجة الحر التي اجتاحت أوروبا هذا العام كانت تكون «خبطة سياحية» لاقتصادنا لو دعونا جميع السياح العرب إلى ربوعنا ليكتشفوا مع القاعدين منا أن جدة غير.
لا أدري أي فوائد لسفر لا يخرج عن نطاق الانتقال من مطار إلى مطار والعسكرة في نقطة واحدة من بلاد شاسعة بغرض اللقاء بالربع ليس إلا.
جريدة الجزيرة
أثلج صدري أن أجد جريدة الجزيرة بإحدى نقاط بيع الكتب والصحف بزيورخ على ندرة السياح العرب فيها، وأن كان قد حز في نفسي أن يكون اخراجها بشكل «طبعة مصغرة»، غير أني بمتحف للخرائط هناك شعرت بوخز يخرز جبيني أمام أول خريطة للكرة الأرضية وضعها الأدريسي بينما كان منشت الجريدة يقول بتخبطنا على خريطة الطريق التي وضعها بوش ربما لمزيد من التيه في المتاهة، هذا ولله الأمر من قبل ومن بعد ولا غالب إلا الله.
|