عندما الحقني والدي بالمدرسة الابتدائية المقابلة لبيتنا الصغير، كنت رافضا كبقية الصغار الدراسة ليس لأنني سأفارق والدي الى حياة أخرى جديدة تمتد يوميا الى خمس ساعات، ولكن لأن اخوتي الثلاثة الأكبر مني قد سبقوني إليها وعرفت من خلالهم كل شيء عن هذه المدرسة، عرفت من سحنات وجوههم صباح مساء أنهم ليسوا سعداء.
أتذكر عام التحاقي بالصف الاول كنت في الشهر الخامس من العام 1418هـ وقتها بدا ان جميع الوزراء الجدد قد باشروا مهامهم كل في وزارته.
ومنهم أنت يا والدي محمد الرشيد فاسمح لي بعد ان جدد لك ولاة الأمر منصبك في الوزارة بعد تغيير مسماها الى التربية والتعليم وبعد أن تخرجت أنا من هذه المدرسة (الكئيبة) أن أروي لك معاناتي من الألف إلى الياء:
مدرستي ليس لها نصيب من اسمها حيث ان اسمها مدرسة المدينة المنورة يكفيها شرفاً وألقا وتألقاً أنها تحوي مسجد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فضلا عن تطور المدينة الحضاري والعمراني، للأسف ان مدرستي عبارة عن مبنى حكومي حديث اقتطع منه مركز الإشراف التربوي بالسويدي غرب الرياض كامل الكعكة! فلم يبق للطلاب الا النزر اليسير حيث اغلقت المداخل وفي حال نشوب حريق لن نستطيع الهروب سوى من المخرج الرئيس والذي يبلغ عرض سلمه مترا واحدا، حيث سيتدافع منه طلاب الدور العلوي البالغون ثلاثمائة طالب تقريبا وفي هذه المدرسة فناء فسيح للركض واللعب يعرف في اوساطنا معشر الطلاب (الملعب الترابي) حيث الشمس الحارقة تنصب أشعتها عموديا كل يوم على رؤوس الصغار مع تطاير ذرات الغبار كل دقيقة بل كل لحظة إلى صدورنا!!
كان والدي وقتها لا يعرف طريقا لمستشفى الاطفال بالسليمانية، ولا مستشفى الامراض الصدرية لكن وبعد مرور أول سنة لي في المدرسة فتح لي ملف خاص حيث بدأت معاناتي مع مرض الربو كفاك الله وأبناءك الصغار شره!!
كنت أقول لوالدي مع كل زيارة للمستشفى إن الوزير الجديد قد ظهر في جميع الصحف التي تجلبها إلينا يوميا من العمل وأنني أحتفظ منذ أصبحت في الصف الرابع بقصاصات التصريحات والوعود بتغيير وإنقاذ المدارس وانتشالها من وضعها المتردي!!
هون عليك يا أبت ستحل مشكلتي والآلاف من الطلاب أفواج ودفعات على مر السنوات كل هؤلاء المتضررين محل اهتمام الوزير سيعمل على اكمال النقص وسد الثغرات بتوجيه لمن يهمه الامر بزراعة أرضية الملعب الترابي.. فيبتسم والدي ساخرا.. فأستدرك قائلا الظاهر أني بالغت شوي!! لا لا.. سيوجه بتبليط الفناء.. فيبتسم مرة أخرى.. قائلا.. قل لمعلميك يبلغوه فهو يفتح قلبه لمن جاءه منهم!!
هل أحدثك يا والدي عن الماء.. أم أحدثك عن الكهرباء وكيف حالنا معها.. الحقيقة أنه لا يمر شهر كامل دون انقطاع في الماء أو الكهرباء.. أما الكهرباء إذا انقطعت في وقت الشتاء فلا نبالي لأن الضرر ليس كبيراً.. فلن أحدثك عن حالات انقطاع التيار الكهربائي في الشتاء وسأتجاوزها في الصيف الى ما هو أهم منها إنه الماء فماذا أقول عن الماء لك ان تتخيل يا والدي 400 طالب بدون ماء خلال يوم دراسي كامل!!
أتذكر المدير عندما أطل بوجهه ونحن في الصف السادس قائلاً في الفسحة الثانية تجدون ماء اهدأوا. اهدأوا. كانت الوجوه كالحة شاحبة وأنا أرى بعض زملائي يرتشفون بأيدهم الصدأ من بقايا الماء في الصنابير إنه منظر يدعو للشفقة حقا عندها تفشت الظاهرة ثم تم توجيه الطلاب بعدم الشرب من القطرات المتدفقة ذات اللون الأحمر حتى لا نصاب بالتلوث!!
الحقيقة التي كشفها لنا أحد المعلمين فيما بعد لحل هذه المشكلة أن الإدارة تطوعت لجمع التبرعات من المعلمين لشراء (وايت) لتعبئة الخزان يحدث هذا خلال العام ثلاث أو أربع مرات!!
وهنا أناشدك أن تناشد لنا معالي وزير المياه والكهرباء غازي القصيبي وهو الذي يسميه والدي (طير شلوى) ولا أدري لماذا؟ ناشده لنا أن يرأف بحالنا وأن يوجه بعدم قطع المياه عن المدارس كلها ومدرستي على وجه الخصوص مهما كانت الظروف والأسباب!!
معالي الوزير.. أما وقد تخرجت من هذه المدرسة بعد ان قضيت فيها ست سنوات، أما وقد جدد لك اربع سنوات قادمات تضاف الى ثماني سنوات سابقات كنت فيها يوميا تطالعنا عبر وسائل الإعلام المختلفة لتقول لنا مع كل تجديد (سأبذل قصارى الجهد لأكون عند حسن ظن ولاة الأمر ولخدمة أبنائي الطلاب..)!!
هآنذا أناشدك وقد أعطيت الفرصة التي ربما تكون الأخيرة لأن تعمل لنا شيئا أناشدك وقد تفوقت في دراستي، هآنذا أناشدك وقد أصغيت خلال ستة اعوام لمعلمي الأفاضل أنهل من فكرهم وأتغذى تربية إسلامية فذة، زيارة واحدة والوقوف على ما ورد في هذه السطور سيكشف لك الحقائق المفجعة بين يديك الطلاب ومعلموهم لتشاهد المعاناة إنها فرصة لعمل شيء ما وللتحقق من القول!
والدي وزير التربية والتعليم.. أنا لا أريدك أن تحول مدرستي إلى مدرسة نموذجية أعرف ان هذا اصبح من سابع المستحيلات في ظل نقص المادة والعدد الكبير من المدارس التي من حقها أن تكون نموذجية. كل ما أتمناه فقط ان تساهم في تخفيف أعداد المرضى المصابين والذين سيصابون بالربو خلال أربع سنوات قادمة.. أما الذي لا أتمناه هو أن تمر اثنتا عشرة سنة ومدرستي هي مدرستي!! والسلام
خالد الأحمد
(مدرسة المدينة الابتدائية)
الرياض حي السويدي
|