Wednesday 10th september,2003 11304العدد الاربعاء 13 ,رجب 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

مركاز مركاز
من أخبار الجرذان
حسين علي حسين

رغم إنني لا أطيق رؤية الفئران، بكافة أحجامها وألوانها، إلا أنني وجدت نفسي - منذ سنوات - منصرفاً إلى حياتها، فأخذت أجمع ما تقع عليه عيني من أخبارها في الكتب والصحف، وقد وجدت مع طول القراءة أن هناك شبهاً عجيباً بين حياة الإنسان وحياة الفأر، رغم أن لكل نوع من أنواع الفئران طبيعته الخاصة، فهناك الرقيق الذي يوضع على الموائد، فيؤكل مقلياً ومشوياً ومسلوقاً، كما تؤكل العصافير، ومنها ما هو رقيق الحس والطبع، ومنها المخاتل والغادر، ومنها ذلك الرائق المزاج، الذي يتحرك حسب الحاجة، وينقض من مكمنه عند الأخطار، ليجهز على فريسته، ثم يعود للراحة والاحتفال بالنصر، ومن صنف الفئران، ذلك الجرذ الذي أورد نتفاً من قصته «الجاحظ» في كتاب «الحيوان» وهي قصة بالغة الدلالة والقوة يقول ابن بحر الجاحظ «فزعم الشرقي بن القطامي: أن رجلاً من أهل الشام اطلع على جرذ يخرج من جحره ديناراً ديناراً، فلما رآه قد أخرج مالاً صالحاً استخفه الحرص، فهم أن يأخذه، ثم أدركه الحزم وفتح له الرزق المقسوم باباً من الفطنه، فقال: الرأي أن أمسك عن أخذه ما دلم يخرج، فإذا رأيته يدخل فعند أول دينار يغيبه ويعيده إلى مكانه أثب عليه فاجترف المال.
قال: ففعلت وعدت إلى موضعي الذي كنت أراه منه، فبينا هو يخرج إذ ترك الإخراج، ثم جعل يرقص ويثب إلى الهواء، ويذهب يمنة ويسرة ساعة، ثم أخذ ديناراً فولى به فأدخله الجحر، فلما رأيت ذلك قمت إلى الدنانير فأخذتها، فلما عاد ليأخذ ديناراً آخر فلم يجد الدنانير، أقبل يثب في الهواء، ثم يضرب بنفسه الأرض حتى مات »!!.
ما هي التركيبة العقلية للجرذ؟ حتى يعرف قيمة المال، لا يعرفه فقط، ولكنه يحرص على جمعه، وإخراجه بين وقت وآخر ليملي ناظريه به، ثم يقفز في الهواء مبتهجاً، بتنامي حصيلته من الدنانير، وفي لحظة تتحول الرقصة، من رقصة للبهجة إلى رقصة للقهر على ضياع حصيلة العمر من الدنانير، لينتهي به الحال ميتاً على ضياع الثروة؟.
لقد تخيلت هذا الجرذ مضارباً في الأسواق المالية، ثم يموت حالاً أو قطرة فقطرة، على ضياع كافة استثماراته في لحظة، من تلك اللحظات التي تمر بها الأسواق المالية، فترتفع بأناس وتهبط بآخرين.. ومن يتأمل حال الأثرياء في مدينة واحدة، يكون مستقراً فيها، سوف يسمع عشرات القصص، عن تجار وصناع كانوا ملء السمع والبصر، ثم انزووا إما في القبر، أو على الأسرة البيضاء، أو بين حيطان منازلهم، يندبون الأيام والأصدقاء، الذين ابتعدوا عنهم وكأنهم مصابون بالجرب، لمجرد أنهم لم يعودوا كما كانوا، يولمون الولائم، ويجهزون السهرات، والسفرات، ويغدقون على من يحبونهم أو يشمون أن وراءهم صلة أو مصلحة، وهم ينسون في غمرة حزنهم ووحدتهم، أنهم كانوا في بعض الأوقات مثل سارق حصيلة الجرذ، الذي جعله يموت محسوراً مدحورا على دنانيره، التي لابد أنه كان يسرقها بانتظام من اصحابها.
ولن أنسى قصة ذلك البخيل الخفيف الظل، الذي كان يفتخر بأن له فضلاً على النقود، فهو يحميها من البهدلة بين أيدي الناس، الذين لا يعرفون قيمتها، فيصرفونها أو يرمونها كيفما اتفق، أما هو فعنده صندوق ضخم، ودافىء في أحسن مكان في منزله، إذا دخله الدينار أو الريال أو الدولار لا يخرج أبدا! وهناك البقال البسيط الذي كنت أراقبه وهو يقوم يوميا بنثر نقوده، وكل فئة من هذه النقود في صرة، يفك الصرر- يوميا- واحدة واحدة، ثم يعيدها كما كانت وهو سعيد بما أضافه لها من إخوان وأخوات.
ولن ننسى قصة ذلك المليونير الذي قال عندما سئل عن ضخامة ثروته، أنه كون تلك الثروة، لأنه كان يأتي في الوقت المناسب وينسحب في الوقت المناسب، وأنه كان ينام قرير العين، لا يهتم بالديون، ولا بالمجرمين، الذين يتصيدونه، في أي شارع أو مرقص أو بار، لسبب بسيط، هو أن أصحاب الديون، كانوا يحرسونه، فإن مات أو قتل، ضاعت أموالهم بين الورثة والمحاكم، لذلك فإنهم يحرصون على إحاطته من بعيد، بجيوش من الحراس والمخبرين، لكن هذا المليونير الذي كان يتمتع بكثير من أخلاق الجرذ، وجد في لحظة واحدة، من ينقض على كل ما يملك، ثم شيئا فشيئا، سقط من كثرة الرقص قهرا وكمدا، وانتهى به الحال نزيلا في فندق من ثلاثة نجوم.. ثلاثة نجوم فقط!!

فاكس: 4533173

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved