قال لي صاحبي : مشكلة الناس سرعة حكمهم على الأشياء من مظاهرها، فحينما يرون - مثلا - امرأة تركض في طريق ما، هاربة من امر ما، متجهة الى مكان ما، يحكمون على حالتها حكماً سريعاً يغلب عليه سوء الظن، او حسن الظن، دون معرفة بحقيقة ما يجري، ودون التفات الى عدم وجود المعلومة الصحيحة عن الحالة التي يرونها وهذا الحكم بهذه الصورة حكم «غير صحيح»، وربما كان حكما ظالما، وهو منهي عنه شرعا ومرفوض عرفاً وعقلاً، ومع ذلك فان هذا النوع من الاحكام هو الذي ينتشر بين الناس، وفي القرآن الكريم نص صريح بوجوب التثبت {(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (:6)
ولاشك أن الندم هو نهاية الاحكام العائمة المبنية على جهل بما نحكم عليه، والندم في هذه الحالة ليس ندما شخصياً فقط، بل ربما كان ندماً عاماً يشعر به المجتمع، وتشعر به الأمة، لأن الاحكام المبنية على الجهل سبب في اثارة الفتن وسوء الظن، ونشر الشك في النفوس، وهي بذلك تهز الاستقرار، وتحطم ثقة الناس ببعضهم، وفي هذا من الاساءة ما يبعث في النفس الشعور بالأسى، ويزيل أسباب الامن النفسي، ويوصل الى الندم والشعور بالمرارة.
هنالك قاعدة في أصول الفقه تقول: الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وهي تؤكد ان الحكم بدون علم لا يجوز، كالشهادة بدون علم، فكل الناس يجمعون على الانكار الشديد على من يشهد على امر لا علم له به، ومن أهم اسباب الطعن في شهادة الشاهد اثبات عدم علمه بما يشهد به او عليه، والحكم بدون علم مثل الشهادة، ولكن الناس قليلو الانكار على صاحبه، مع ما فيه من الخطورة التي لا تخفى.
ان الاحكام العائمة دليل على التسرع الذي يدل على شخصية تعاني من خلل في التصور والفهم الصحيح لصفات الشخصية المستقيمة في الحياة.
ان صورة تلك المرأة الهاربة يمكن ان تكون مصدراً لعشرات الحكايات والقصص حينما تؤخذ بشكلها الظاهر دون معرفة بالأسباب، وعلم بالدواعي، وسوف تكون كلها حكايات وقصصاً قابلة للرفض ما عدا واحدة منها ربما تكون منطبقة على الواقع، لأنه لا يمكن ان تكون كل الحكايات المتخيلة منطبقة على صورة تلك المرأة الهاربة.
بل ربما ينسف العلم الصحيح بحقيقة السبب في هروب تلك المرأة كل ما نسج حولها من حكايات، وما صدر عنها من أحكام، فلو ظهرت الحقيقة فيما بعد مؤكدة ان تلك المرأة الهاربة مصابة بداء الجنون، او بمرض نفسي معين فسوف تكون حقيقة مرة بالنسبة الى اولئك الذين نسجوا الحكايات وأصدروا الأحكام.
ولاشك ان التورع عن اصدار الاحكام الا بعد العلم والمعرفة يحتاج الى مجاهدة للنفس، واستعاذة بالله من الشيطان الرجيم الذي يجري من ابن آدم مجرى الدم، وهذا ما اشار اليه الرسول صلى الله عليه وسلم حينما كان مع زوجته صفية رضي الله عنها في الليل، ورآهما بعض الصحابة فقال: على رسلكما انها صفية، ثم اكد لهما يقينه ببعدهما عن سوء الظن فيه عليه الصلاة والسلام، ولكنه اراد ان يغلق الباب على الشيطان ووساوسه واخبرهما انه يجري من ابن آدم مجرى الدم.
يروي احدهم قصة مثيرة عن نفسه فيقول: كنت قادما الى منزلي بعد يوم مشحون بالأعمال، وحينما دنوت من الباب فوجئت بصديق لي يخرج من منزلي حاملا معه بعض الأغراض المنزلية، وخطرت ببالي مباشرة خاطرة شيطانية ولكنني صرفتها عن ذهني مباشرة، وأقنعت نفسي ان هنالك سببا آخر طبيعياً في الموضوع، ولهذا بادرت صديقي قائلاً: أنا متأكد انك قد تورطت فأخطأت الطريق الى منزلك، وابتسمت له، وكان الاضطراب الشديد قد بدا على ملامحه، ولكن ابتسامتي هدأت من روعه، وأخبرني بقصته فكانت كما توقعت فنحن نسكن في مجمع سكني متشابه تماما وانما يفرق بين مداخله بالأرقام، وصديقي هذا يسكن في البيت الملاصق لبيتي، ودخل الى فناء الدار ووضع أغراضه ونادى باسم زوجته، فلما اكتشف الخطأ كاد يجن من هول المفاجأة، وهنا يبرز دور العقل والحكمة، وتبرز قيمة العلم بالشيء، واهمية الاناة والتمهل، وهما من الصفات التي امتدح بها الرسول صلى الله عليه وسلم زيد الخيل الذي اسماه «زيد الخير» حيث قال له: ان فيك خصلتين يحبهما الله «الحلم والاناة».
«احكم بعد ان تعلم» جملة مهمة يجب ان نضعها نصب اعيننا ونحن نتعامل مع مواقف الحياة المختلفة ومفاجآتها حتى لا نثير فتنا بأحكام عائمة لا تقوم على دليل، ولا تعتمد على علم صحيح.
إشارة:
بني الإسلام أين العقل هلا
غرسنا حوله زهر الرشاد
|