في العراق تستطيع أن تكتشف فصولاً ليست هينة عن جميع النظريات الاقتصادية إما مجتمعة في سوق واحد أو مفرقة على جميع أنحائه ابتداءً من نظرية المقايضة والكيل بمكاييل عديدة بحسب شرعية أو لاشرعية الحاجة المتعامل بها مروراً بعصور اقتصادية اندثرت حتى في دول مناشئها وانتهاءً بنظرية المسدس الموسومة فوهته في خاصرتك وصوت يهمس من خلف صيوان إذنك - هات كل مافي جيوبك ثم اذهب راشداً و مبتسما وإلا..؟ ويفعل الرجل إرضاءً لفوهة المسدس الذي قد يكون مجرد إنبوب كل ما طلبوه منه دون ضجيج، وقد يتجرأ وكمحاولة أخيرة فيطلب أن يتركوا له ثمن العودة إلى مسكنه، وأخيراً ننتهي بنظرية اقتصاد السوق والخصخصة التي لا يعرف عنها العراقي شيئاً سوى ما يكتب في الصحف وما تبشر به من خير عميم تجعل العراق مشابهاً لولاية لاس فيغاس الأمريكية .
هذه الهلوسة الاقتصادية جادت بها قرائح أفواج العاطلين عن العمل الذين افرزتهم (حرب التحرير) والتي خلفت بدورها نظرية جديدة في كيفية الحصول على القوت بأساليب قلما نجدلها مثيلا في التاريخ فهناك أنواع متعددة من العاطلين عن العمل تمارس أنواعا من الحروب و هذه الحروب لا تستخدم فيها الطائرات والصواريخ بل هي حروب من نوع آخر، فالنهب والسلب حرب، وإصدار جريدة حرب، والتحدث عن نظام صدام حسين في حافلات نقل الركاب حرب، والضغط على زناد الرشاشة لتطلق ثلاثين طلقة في منتصف الليل بسماء بغداد المظلمة حرب، وقتل جندي أمريكي وإحراق مدرعة حرب،ولذلك اختلط الحابل بالنابل على السلطة المدنية ومجلس الحكم والشرطة العراقية والأجنبية متعددة الجنسيات حتى أقعدتهم حيارى متسائلين كيف يتحقق الأمن والامان ؟
والعاطلون عن العمل أصناف فقد تجد العميد الركن المهندس إلى جانب مقدم الشرطة الدكتورفي القانون الدولي فضلاً عن الدبلوماسي المخضرم الباحث عن فرصة عمل كمترجم مع قوات التحالف وهو يجد عضو الشعبة الحزبية الذي اصبح بلمح البصر تاجر سيارات مستخدماً جميع أقاربه الماهرين كحراس لحماية المال من الحسد والغارات النهارية الأخطر من الليلية، عاطلون عن العمل لاحصرلهم : أعداد مدورة من العهد البائد وجديدة من عصر التحرير ومعظمها يصعب فهم مدى حاجتها للعمل أو لقمة العيش. فليس كل من لا يمارس عملاً عاطلاً عن العمل فقد يكون مكتفياً بما خزنه جالساً في المقهى يتحين الفرص لبيع المواد التي نقل حيازتها من القطاع العام إلى القطاع البيتي أو يجول في سيارته التي تعلم قيادتها تواً في شوارع بغداد المزدحمة بطوابير المركبات المنتظرة دورها عند محطة تعبئة الوقود، أو المرور من الشارع الذي ضيقته متاريس أكياس التراب وهي تحيط جنود وآليات قوات التحالف إضافة إلى ما يحيط أجسادهم من دروع واجهزة وخوذ ومجموعة من قناني الماء والمشروبات الأخرى المثلجة.
وعلى الباحثين عن تحديد نسبة البطالة في العراق وأنواعها أن يعدو جميع العراقيين عاطلين عن العمل عدا الموظفين الذين يتقاضون رواتبهم وهم يجلسون في أبواب دوائرهم مفترشين الأرض ومبتعدين عن سخام الجدران المحترقة. وقد نجدهم في أماكن بديلة لدوائرهم وهي تلك الأماكن التي كان يستخدمها النظام السباق لتسيير دفة الحكم ودفات أخرى حزبية وعسكرية واستخباراتية وسكنية وعناوين أخرى كانت سببا في إطالة عمره ثلاثين سنة وبإمكانها أن تطيل لثلاثمائة سنة أخرى لولا الإعصار الأمريكي البريطاني الذي أحرز المباراة بتسعة عشر يوما لإسقاط إمبراطورية الشرق وسيحتاج إلى سنوات والى كل دول العالم لكي يتمكن من حكم العراق. وهؤلاء هم كل العاملين في العراق سواء من الموظفين المدنيين القدماء أو الجدد من قوات الشرطة وأنواعها، وإذا أردنا زيادتهم وخففنا من عدد العاطلين أضفنا المتقاعدين الواقفين على الدوام في طوابير أمام منافذ تسليم الراتب البالغ ستين دولارا للأشهر الثلاثة الأخيرة وبرغم ضآلته فانه يمثل عشرين ضعفاً للراتب السابق الذي لا يسد أجور الوصول إلى مصرف الدفع.
وعدا أولئك الذين مازالوا محتفظين بممارسة حرفهم ودكاكينهم وتجارتهم المهددة بتقلبات سعر صرف الدولار فالباقي من العاطلين: عاطل لا يهمه متى يتوفر العمل لاسباب ذكرناها وأخرى لم تتأكد لدينا وعاطل لا يجد قوت يومه إلا بالسطو على الآخرين أو على ما تبقى من المؤسسات الرسمية من انواع المعادن والأسلاك والأخشاب لبيعها إلى تجار متحفزين لشراء كل شيء وصهره داخل الحدود أو خارجها فالحدود أزيلت وتحققت الوحدة الاقتصادية مع دول الجوار بلا جمرك ولامكوس حتى وصل سعر كيلو اللحم إلى خمسة آلاف دينار فالعجول والأغنام وجدت لها المراعي الخضراء خارج الحدود وتوفر لها من يسوقها بأمان مطلق.
ولكن الجميع يعيشون تحت أو فوق خط الفقر أو الغنى الذي تقيس عليه هيئة الأمم المتحدة نسبة الفقر أو البطالة أو الترف إن كان ثمة خط للترف أو خط بياني للصعود والنزول في مستويات الحياة الاقتصادية لاسباب ( سو برمانية ).
ويبقى الجميع في صراخ دائب من هول الصدمة فكيف يعبرون عن احسا سهم هذا فالإحساس بالصدمة الأخطبوطية ليس من اليسير التعبير عنه إلا بالذهول أو الصراخ فالسكوت ليس وارداً هنا ولا مبررا إلا لمن لفظوا أنفاسهم بطلقة أو شظية أو سكتة دماغية. فأين ذالك السبب الملموس المعبر عن الصدمة؟ هل يجدونه في انقطاع التيار الكهربائي أو شح المياه أو انعدام الأمن أو عدم وجود حكومة أو توقف الحياة بعد المغرب أو الابتعاد عن المشاعر الغريبة التي تداهمهم جراء الفراغ الذي كان يملؤه صدام حسين بأنواع القعقعة و الضجيج. كيف يستوعبون غياب نمطية حياتية شبوا عليها واعتادتها الأذن والعين واليد والجيب واللسان؟
ترى أين ذهبت أفواج الإمبراطورية العسكرية من جيش وشرطة واستخبارات ومخابرات وتصنيع عسكري ووزارة الإعلام ومؤسسات وزارة الثقافة واللجنة الأولمبية وتوابعها ووزارة الخارجية ومؤسسات ودوائر ومكاتب أخرى لمختلف الاختصاصات مما لا يرتبط بوزارة ومؤسسة محددة المعالم أو غائرة الأغراض.
كلهم إذاً من العاطلين عن العمل صرفت عليهم الدولة دماء الوطن وماءه وخبراته لتعدهم فهل ستستوعبهم شركات الأعمار المتحفزة للدخول الى العراق وممارسة البناء ومتى؟
وكم ستحتاج لنشر مفاهيم اقتصاد السوق القائمة على المنافسة والتناحر؟
وكيف سيتفهم المسؤولون الحاليون في دوائر الدولة فلسفة الخصخصة الاقتصادية وأكثر الناس لا تعرف سوى العمل ثماني ساعات وانتظار نهاية الشهر لقبض الراتب أو قبض (المكرمات) ومبالغ المناسبات الثلاث عشرة المليونية الدنانير أو المئوية.
أما الذين يتفهمونها فقد أزيحوا مع النظام وإن وجِدوا فإن أساليب التنافس التي كانوا يمارسونها لم تكن على الأسس العلمية المعروفة وإنما كانت على أسس عائلية وعشائرية وأخرى لن تستطيع أية فضائية مهما أوتيت من القدرات أن تنقلها الى العالم.
يبقى أن نبدي إعجابنا بحظ قوات التحالف التي لم تواجه مقاومة بحجم البطالة التي تزيد على 80 بالمائة من عدد نفوس العراق، فللاحتلال حظوظ أيضاً غير أن القوات إياها متذمرة من أعمال المقاومة وتنسبها كلها لأعوان النظام المندثر وفاتها أن صدام حسين نفسه يتمنى أن يلقى القبض عليه أو يسلم نفسه ليقبض ثمن الجائزة .. فهو نفسه عاطل عن العمل ويشغل نفسه بكتابة الرسائل الغرامية للشعب العراقي المحتل.
د. حميد عبد الله
كاتب وصحفي عراقي
|