ليس غريباً أن يقع الناس في تنّور الفتن المسجور، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها» وما عصم منها صفوة الصفوة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، رضوان الله عليهم، قال صلى الله عليه وسلم: «أنا على حوضي أنتظر من يرد علي، فيؤخذ بناس من دوني، فأقول: أمتي، فيقال: لا تدري مشوا على القهقرى». هذا على مستوى الأمة. ولهذا استعاذ ابن أبي مليكة من أن يرجع على عقبيه أو يفتن. أما على مستوى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال: «حتى إذا أهويت لأناولهم اختلجوا دوني، فأقول: أي رب أصحابي، يقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك» وفي حديث آخر «يرد علي أقوام أعرفهم، ويعرفونني ثم يحال بيني وبينهم». والله قد سأل سؤالاً استنكارياً لمستبعدي الفتنة { )أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) } والناس كلهم أجمعون معرضون لنكسات في الدين أو في الدنيا، وفي الدعاء المأثور: «ولا تجعل مصيبتنا في ديننا» هذه النكسات تشكل دركات، إذ الفتنة في القرآن على ثلاثة عشر معنى، قد تزيد بمترادفاتها، وبينها وبين «الابتلاء» عموم وخصوص، والفيصل في كل ذلك السياق النصي أو الأثر النقلي. ولقد استبعد الصحابة أن يكون ما أخبرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفتن واقعاً في حياتهم حتى رأوها. وكيف لا تكون، وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف يشاء، ومن الدعاء المأثور: «يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك». والفتنة لا تؤمن على أحد. قيل عن الإمام «أحمد بن حنبل»، وهو الصابر المحتسب الصادع بالحق الوقاف عند الحدود، المتعرض لفتنة «خلق القرآن» والممتحن فيها: أنه لما كان في سكرات الموت، كان يردد «بعد.. بعد» فلما سئل، قال: يأتيني الشيطان، ويقول: فُتَّني يا أحيمد. فأقول : بعد.. بعد. ولقد سمعت أن العلامة «ابن باز» رحمه الله لا يرغب تسجيل سيرته في حياته، ويطلب إرجاء ذلك حتى يموت، ولما سئل عن ذلك قال: إن الحي لا تؤمن عليه الفتنة.
والسعيد السعيد من يدركه الموت، وهو ثابت على شهادة التوحيد، متخلص من حقوق العبيد، متق للفتن، ملازم لجماعة المسلمين. وأنى لمؤثري السلامة النجاة، والفتن تعصف كالريح العقيم، تجتال الجميع، ولا تصيب الذين ظلموا خاصة.
وليس بغريب - والحالة تلك - أن يفتتن الناس بالظاهر منها والباطن، يكثر القتل، ويختل الأمن، وتنتهك الحرمات، وتتفرق بالناس الولاءات، وتتعدد المرجعيات، حتى يغبط الأحياء الأموات، وفي الحديث: «لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتني مكانه»، ولذلك أسباب كثيرة، وقد أومأ المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى إلى الأهم منها، فقال: «بنزول الجهل ورفع العلم» وذلك ما نعيشه ونشاهده في كثير من الأوساط. شباب مهتاجون تخطفوا الآيات والأحاديث، دونما إحاطة بها، أو فهم لما فيها، أداروا عليها أحكاماً سياسية، تطال العامة والخاصة، وبرروا بها أعمالاً تقع في صميم الفكر السياسي، بكل حساسيته وخطورته، وسوغوا بها الخروج على جماعة المسلمين، وهم جهلة بضوابط الاجتهاد والاستنباط والفتيا وشروطها، من معرفة بالعموم والخصوص، والناسخ والمنسوخ، والقطع والاحتمال، والتقدم والتأخر، واختلاف التنوع والتضاد، وقواعد الفقهاء، وضوابط الأصوليين، والمفاهيم والمقاصد، وفقه الأحكام وفقه الواقع، مع فقد العمق والشمول والتجارب وآليات اللغة وفقهها.
وما أضل الناس إلا دعاة السوء الذين يشرعنون للمنكر، ويشيعون الرذيلة، ويحرضون العامة على التمرد، لا يحترمون العلماء، ولا يهابون السلطة، وإذا قيل لأحدهم: اتق الله أخذته العزة بالإثم، يمارسون التضليل والفوضى باسم الحرية والحقوق، يستأثرون بها، ويصادرون حق الغير، ومن ثم يكفرون الأشخاص والطوائف، لمجرد المخالفة في الرأي، وهذا فيما أرى هو رفع العلم ونزول الجهل، والعامة غنيمة باردة لمن سبق، يحسنون الظن، ويصدقون الكذبة، ويزكون المزيفين. ومن الصعوبة بمكان تصحيح المفاهيم الخاطئة بعد رسوخها، وظاهرة «غسل المخ» خير مثال على ذلك، فكم من شاب أقدم على اغتيال أو تفجير، قتل فيه نفسه ومن حوله، دون أي مسوغ شرعي.
ولقد أشار المصطفى صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح إلى أن هلكة أمته على يد «أغيلمة من قريش»، والمقصود هنا كلمة «أغيلمة» جمع مصغر لغلام، فهو قد جمع سبتين: تصغير الكلمة والسن. والشباب مظنة الافتتان، وما سيئت مشاهدنا إلا من أغيلمة تطيش سهامها، كما طاشت يد الغلام في الصحفة، فكان أن وجد من يرشده: «سمِّ الله يا غلام وكل مما يليك وكل بيمينك» والرسول الذي لا ينطق عن الهوى، يعرف ماذا ستلاقي أمته، ولهذا أوصى بالصبر قائلاً: «إنه لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شر منه» وها نحن نشاهد ذلك حياً على الهواء، فـ«العراق» الذي تجرع الأمرين في العهد البائد، حيث سيم الخسف: تقتيلاً وتشريداً وإذلالاً وعوزاً، خرج من ظلم ذوي القربى إلى احتلال معلن، لم يخلف إلا فوضى مستحكمة، وانفلاتاً أمنياً مخيفاً، وفراغاً دستورياً مفجعاً، وإيقاظاً لخلايا نائمة، تنذر بـ«أفغنة» أو «لبننة» أو «صوملة» أو «سودنة» وقودها الناس والأموال والثمرات، ونتائجها الجوع والخوف والنقص في كل وجوه الحياة. ويكفي أن نستعيد تفجير «النجف» لنعرف لغة الفراغ الدستوري، وأم المصائب اختلاف النخب حول بدهيات لا تحتمل الاختلاف، ووقوع الكافة في تناحر باللسان والسنان.
والموقف يزداد تعقيداً حين يأتي الإرهاب باسم الإسلام، مستهدفاً المسلمين الآمنين، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «من حمل علينا السلاح فليس منا» بل يزيد في أهمية حرمة المسلم، وتوفير الأمن له بمنع الإشارة بالسلاح، فلقد قال: «لا يشير أحدكم على اخيه بالسلاح»، وكيف يستسيغ مسلم ترويع أخيه فضلاً عن قتله، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» وهو قد نهى أمته عن الرجوع إلى الكفر بعد الإيمان قائلاً: «لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض» وفي خطبته التي بلغ بها أمر الله، وأشهده على الإبلاغ، وأشهد الناس على أنفسهم، قال فيها: «فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا»، وخطورة الفتن التي تجتاح الأمة ليست في الوقوعات، ولكنها في المفاهيم. فالذين يقبلون على الانتحار أو التفجير، ويقتلون أنفسهم، ويقتلون المعصومين والمستأمنين، ويهلكون الحرث والنسل، لم يفعلوا ذلك من أجل مكتسبات دنيوية، ولا من أجل تعارض المصالح، وإن كان وراء ما يفعلونه أطماع، ألبسها المهندسون للعب لبوس الدين، فانجر إليها من لم يكتو بمكر الماكرين. هؤلاء الانتحاريون لديهم إيمان راسخ بمشروعية فعلهم، فمن يقتل نفسه، ويقتل الآخرين، لا يمارس ذلك من أجل عرض الحياة الدنيا، ومثل هذه العقيدة المنحرفة، لا يمكن حسمها على يد رجال الأمن والمباحث، ولا بحد الحرابة من قتل أو صلب أو قطع أو نفي، إنها بحاجة إلى مواجهة بالكلمة الطيبة والقول السديد، ينهض بهما العالم والمعلم والواعظ والخطيب والمفكر والمبدع.
فالمواجهة القادمة ليست بالسنان، وإنما هي باللسان، وليست حصراً على رجال الأمن، بل أكاد أجزم بأن الدور الأهم لرجل الفكر والقلم واللسان. إننا حين لا نجد ملجأ ولا مغارات نحتمي فيها من الفتن فان علينا أن نحسن التعامل معها، والخلوص منها، بأسرع وقت، وأقل خسارة، فلقد أصابت قوماً فخرجوا منها سالمين، واستدرجت آخرين فأردتهم، وسلبت ما أفاء الله به عليهم من مال وقوة مادية ومعنوية، وخلفت فيهم الفرقة والعداوة والبغضاء والتنازع إلى يوم يلقونه، ولقد واجه الرسول صلى الله عليه وسلم الفتن باللين تارة، وبالقوة تارة أخرى، وترك لليهود والمنافقين أكثر من فرصة، وأحسن التعامل مع من فاء منهم، وما كفر من فعل الكفر، وما قيد فعل المخالف بموقف واحد، فعل ذلك مع «ابن أُبيّ» و«حاطب بن بلتعة» وما استجاب لمن هم بقتل المخالف، مخافة أن يقال: محمد يقتل أصحابه، والفتنة لازمة، والأمة تخرج من فتنة إلى أخرى، ولكل فتنة موقف، وفي حديث حذيفة التساؤلي عن تتابع الفتن: «فهل بعد الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه بها»، ونحن نعيش زمن الدعاة المضلين، وهذا يتطلب تحرفاً دعوياً، تكون فيه الكلمة سيدة الموقف، والشاهد في ذلك سؤال حذيفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم»، وحذيفة رضي الله عنه يمعن في السؤال، حيث استطرد قائلاً: «فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك».
والبلاد الإسلامية قد تمر بحالات مماثلة، بحيث لا يكون جماعة ولا إمام. ومن ثم كان التوجيه على كل الأحوال: التوجيه بالمحافظة على الأمن واجتماع الكلمة، والتوجيه إذا جاء المسلمين خارجٌ على السلطة الشرعية، وكلمتهم على رجل منهم، والتوجيه حين تكون الفتن مع وجود الجماعة والإمامة، والتوجيه حين لا تكون جماعة ولا إمامة. وأجزم ان العالم العربي يعيش الحالات كلها، فهناك أمن واستقرار، وهناك فتن عمياء مع وجود جماعة وإمام، وهناك حالة من الفراغ الدستوري الذي لا يكون فيه جماعة ولا إمام. والرسول صلى الله عليه وسلم قد وجه أمته في كل الحالات، وأعطاها من الوصايا ما يمكنها من التعامل الحسن مع الفتن، ومع بوادرها. والذين يتصورون الحرب حلاً وخياراً وحيداً ولا يفكرون في تحرف أو تحيز أو دفع بالتي هي أحسن يداوون الأوضاع بالداء العضال، على حد: «وداوني بالتي كانت هي الداء» ولقد استشهد «البخاري» في صحيحه عند حديثه عن الفتن التي تموج كموج البحر بأبيات لأمرىء القيس:
الحرب أول ما تكون فتية
تسعى بزينتها لكل جهول
حتى إذا اشتعلت وشبَّ ضِرامُها
ولَّت عجوزاً غيرَ ذات حليل
شمطاءَ يُنكرُ لونُها وتغيرت
مكروهة للشم والتقبيل
|
وفي رواية الحميدي: «شمطاء جزت شعرها» واختيار الحرب يوقع الأقوياء في المستنقعات، ويضطرهم إلى التماس المخارج، وإعطاء التنازلات، وها هي قوى التحالف أحسنت هندسة الحرب، ولم تحسن هندسة ما بعدها، والحرب حين تقوم تنقلب الأوضاع رأساً على عقب.
واذا لم يكن من الموت بدٌّ
فمن العار ان تموت جباناً
|
ولقد تداول الصحابة بحضرة «عمر» رضي الله عنه ما أثر عن الرسول في شأن الفتنة فقيل: بأن هناك فتناً تكفرها الصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي الابتلاء والامتحان بالنعم أو بالنقم، كفتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره، أما التي تموج كموج البحر فهي فتن الاعتقاد والولاء والبراء وتفرق الكلمة، والتقاء المسلمين بسيفيهما، والخروج على السلطان الذي لم يحدث كفراً بواحاً فيه من الله دليل. ولقد أومأ الصحابة إلى «كسر الباب» إيذانا بقيام الفتنة إلى قيام الساعة، وجعلوه قتل «عمر» وهو قائم يصلي على يد غلام المغيرة بن شعبة. والقارىء للتاريخ القديم تؤلمه مبادرة الفتن، وما حصل بين الصحابة، وما نجم عن ذلك من فرق ضالة شرعت لقومها من الدين ما لم يأذن به الله، وليست قراءة التاريخ الحديث بأقل إيلاماً، والناصح لأمته المهتم بأمرها يعتصر قلبه ما تعانيه أمته من ويلات دمرت الاقتصاد، وعطلت المشاريع، وأخلت بالأمن، وأشاعت الفوضى، وأحبطت النفوس، وأذلت الأحرار، ودنست الحرائر وأخرجت الناس من ديارهم. ولست أعرف أقسى على الإنسان من أن يهاجر مكرهاً من وطنه، ليعيش غريب الوجه واليد واللسان والعقيدة، ولقد استعظم القرآن الكريم الإخراج من الديار، وعده من أكبر الجنايات، وجعله مسوغاً للمقاومة، وأخذ الميثاق على بني اسرائيل بعدم سفك الدماء والإخراج من الديار واستنكر المخالفة {(ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ) } وجاءت آيات كثيرة تستعظم ذلك، مما يؤكد حق المواطنة، وأهمية الوطن، ومشروعية حبه والدفاع عنه، والموت في سبيل ذلك، فهو من الضرورات الخمس أو الست التي يتداولها العلماء، ومن مات وهو يدافع عنها مات شهيداً، والفتن القائمة تمخضت عن ملايين المقتولين والمسجونين والفارين من ديارهم. وعلينا وقد أصابنا دَخَنُ ذلك ألا ندع الدخان يتحول إلى ضرام، فليس بيننا وبين الله نسب، وما أوجب على نفسه النصر إلا لمن نصر دينه وامتثل أمره، والذين شردوا من ديارهم، وقتلوا، وسلبوا أموالهم وحرياتهم أناس مثلنا، ومن الخير لنا أن نتعظ بهم، وأن نسعى جهدنا لإتقاء الفتن، فإن نفذ شيء من فلولها فلا أقل من أن نطوق ذلك في أضيق نطاق، ولن يتحقق النصر إلا بمبادرة النصح لله ولرسوله ولائمة المسلمين وعامتهم، والدعوة على بصيرة، وأول خطوة نخطوها الفرار إلى الله، والدخول في الدين كافة، فالدين عصمة أمرنا، والقلم واللسان في هذه الظروف أولى من السيف والسنان، إن على علماء الأمة ومفكريها وأهل الحل والعقد فيها، أن يلتقوا على كتاب الله وسنة نبيه، لا يتخذون أهواءهم آلهة، ولا آباءهم قدوة، وقد تركوا على المحجة البيضاء، التي لا يزيغ عنها إلا هالك، ومن رضي بالإسلام عقيدة ومنهج حياة، فليتفقه في الدين، لينذر قومه، وما تسلط أراذل الناس على أمة الإسلام إلا بسبب البعد عن سواء السبيل، فهل نشخص الداء، ونصف الدواء، ونجرب العودة النصوح إلى الدين الخالص.
|