في هذه المرحلة المليئة بالتحديات والضغوط المتنوعة ثمة مخاضات إيجابية بدأت تظهر على السطح، مثل ترسيخ الحوار الفكري وفتح باب النقاش لأزمات ومواضيع كان يصعب المساس بها. إنها قناعة حصيفة من أصحاب القرار، والفعاليات والنخب تدرك أن أسلوب المبالغة في التحفظ وحجب الاختلافات وعدم مناقشة الأزمات هي من الأسباب المحتملة التي تهيئ المناخ لصنوف الغلو والتعصب مع ما قد تبعثه من تناحر وعنف.
إلا أن الدعوات السامية والنداءات النبيلة للإصلاح تحتاج إلى إزالة عوائق تعترض تطبيقها وتفعيلها، وإلا أصبحت مثل كثير من القيم الرائعة والشعارات الجميلة التي طالما تم تردادها وثمارها غير مجتناة. فالحوار في منتديات مغلقة أو ما شابهها دون كشفها للعموم من تشكيلات أهلية وشرائح اجتماعية رجالاً ونساء عبر قنوات الإعلام المختلفة، ودون إطلاق باب المشاركة مفتوحاً قد يُخلُّ بمسيرة الإصلاح. صحيح أن هناك حالات يكون فيها النقاش متاحاً للجميع في الإعلام ولكنه يتم بتحفظ شديد باستثناء بعض العناوين أو العبارات.
في الحوارات الفكرية المتقدمة التي تمت، غالباً نسمع بها ولا نعرف عنها شيئاً عدا عن مقتطفات مختصرة غامضة لا تكشف تفاصيل الحوار أو الأزمات وبواعثها بل تتكلم بطريقة دبلوماسية. بينما الحوارات تتم عادة للتثاقف بين مختلفين أو متخاصمين وإلا كانت مجرد ندوات ومحاضرات تلقى للتعليم والإفادة العامة ولا تبحث في تناحرات أو إشكاليات واقعية.. ثمة أزمات لا بد من كشفها قبل أن يستشري ما هو قابع تحت غطاء الحجب.. فمن الحوار المكشوف ينبثق النور ويرى كل طرف جوانب كانت معتمة فيتفهم وجهة نظر الآخر وينمو التسامح.. وتغدو ثقافة الاختلاف مرتعاً لحالة التآلف بين تيارات المجتمع.. مع محافظة كل تيار على قناعاته وأطروحاته.
نعم أصبح المجال مفتوحاً لمناقشة أكثر الأزمات إحراجاً، ولكنه عمومي فيما أن هناك تفاصيل هي في غاية الأهمية لم يعلن عنها. فمن يناقش تفاصيل القضايا العشائرية وعلاقتها مع المدنية، نخشى إثارته للنعرات القبلية. من يدرس الحالات الطائفية نتخوف من إيقاظه للفتنة. من يحلل الفروقات الحضارية والتاريخية بين مجتمعات المناطق نخشى عنصريته. من يكتب عن حقوق المرأة ووضعها في المجتمع التقليدي وينتقد سلوكياتنا قد نرميه بالانحراف. من يطرح قضايا حقوق الإنسان وتفصيلاتها المدنية قد يتهم بالتغريب. من ينتقد فكراً عفا عليه الزمن قد يتهم بالهرطقة. من يطرح تصوراً سياسياً مخالفاً في قضايانا القومية تلصق به تهم الخيانة أو العمالة.. إلخ. إذن، ماذا بقي للمصلح، للباحث العلمي، للمفكر للكاتب، غير مجاملات لأوضاعنا.. أو في أحسن الأحوال نقد ذاتي عام لا يقول كثيراً؟
الإصلاح يعني ضمنياً أن هناك خللاً ينبغي علاجه.. والمعالجة تستلزم التشخيص.. الذي بدوره يستلزم البحث والمراجعة في كل الفروع والتفاصيل.. وذلك لن يكتب له النجاح دون مكاشفة وشفافية ونقد ذاتي. أما الالتفاف على النفس بكل عللها والادعاء بأننا مجتمع لا يُشك في طهرانيته وكماله فهو وهْمٌ لم يحدث قط لمجتمع في التاريخ. الانغلاق على الذات وتمجيدها مقابل رفض تجارب الآخرين أو الاكتفاء بشتم التحديث أو الحداثة أو الانفتاح أو العولمة أو الغرب دون إيجاد حلٍّ واقعي بديل هو إرضاء للذات.
نحن مجتمعات حققت مكاسب حضارية ضخمة مقارنة عن ذي قبل، ولكننا نعاني أزمات نخشى المصارحة أو المكاشفة عن طبيعتها.. نستنكف عن محاسبة النفس وتعرية أزماتنا.. نخاف من التجديد والتحديث.. لا نستسيغ مراجعة أفكارنا وقناعاتنا.. لا نراجع أنماطنا وسلوكياتنا الاجتماعية.. لا نناقش أوضاع المرأة وحقوقها.. لا نستطيب محاسبة مناهجنا التربوية.. حتى تراكمت وتجمدت كثير من مكتسباتنا.
بلا مكاشفة يغدو الإصلاح كلمة جميلة ترمى في الهواء.. لأننا لن نتعرف على معناه الواقعي ومتطلباته التطبيقية في داخل حياتنا.. فهناك ثمن للإصلاح وشروط.. وينبغي التهيؤ لفهم مضامينه.. هناك المفكر والداعية والمثقف الذين ينادون بالإصلاح الفكري وحرية الرأي كمتنفس لهم وحدهم دون غيرهم، وهم غير مستعدين لإصلاح علاقاتهم مع المخالفين أو للتسامح مع آرائهم.. وثمة المدير الذي يلحُّ على طلب الإصلاح الإداري ويحرم موظفيه من ممارسة صلاحياتهم.. وهناك الموظف الذي يطالب بإصلاح إداري وسياسي ولكنه يرفض إصلاحاً يؤثر على نمطه التقليدي من تمايز قبلي أو مناطقي أو طائفي أو ذكوري.. وثمة ذو الدخل المحدود الذي ينشد إلى الإصلاح الاقتصادي ولكنه غير مستعد لإصلاح اجتماعي يعطي زوجته وأبناءه حقوقهم.. وثمة المرأة التي تطالب بحقوقها وإصلاح أوضاعها وهي غير مستعدة لإعطاء الخادمة أو حتى بناتها جزءاً يسيراً من تلك الحقوق. كم نسبتنا في المجتمع نحن أفراد أو جماعات الذين نطالب بكل أنواع الإصلاح ما عدا تلك التي تؤثر على مصالحنا أو قناعاتنا أو عاداتنا أو أنماطنا السلوكية؟ أظن أنها نسبة عالية جداً، لأن مفهوم الإصلاح لم يطرح بشفافية ووضوح.. كلٌّ يرى أن الإصلاح هو تغيّر من الآخر لصالحه.. بينما الإصلاح عمل شامل يعني تغيير الجميع.. وهذه لن تدرك دون كشف حاجات وقناعات الجميع.
الدعوة للإصلاح التي يُنادى بها وما يخرج به من قرارات أو رؤى ليس منتظراً منها أن تكون شيئاً تحبه أنفسنا.. إن المريض حين يتناول دواء مرَّاً أو يتعرض لعملية جراحية قاسية هو لا يستطيب هذا الأمر ولكنه يدرك أنه العلاج الناجع لمستقبل جسده العليل. نحن نواجه أزمات حادة تحتاج للدراسة والتحليل والمناقشة..
وهذه كلها ينبغي أن تكون مكشوفة ومفتوحة للجميع كي يعرف كل فرد ما ينبغي عليه وعلى الآخرين من إصلاح.. فنحن أزمتنا ونحن إصلاحنا!
|