الاختلاف سنة ربانية، لا مخلص منها، فالناس يختلفون في ألوانهم، وأشكالهم، وقبائلهم، وميولهم، وعقولهم وفي كل شيء، كما يقول أبو الطيب: تَخَالَفَ النَّاسُ حَتَّى لاَ اتّفَاقَ لَهُمْ إلاَ عَلَى شَجَبٍ وَالْخُلْفُ في الشَّجَبِ فَقِيلَ: تَخْلصُ نَفْسُ الْمَرْءِ سَالِمَةً وَقِيلَ: تَشْرك جِسَمَ الْمَرْءِ فِي الْعَطَبِ {(وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ) (الروم:22)
{وّمٌن كٍلٌَ شّيًءُ خّلّقًنّا زّوًجّيًنٌ لّعّلَّكٍمً تّذّكَّرٍونّ} [الذاريات: 49] {(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13)
فلم يقل سبحانه: لتعاركوا، أو لتحاربوا؛ وإنما قال: لتعارفوا. إن قيام الكون وبقاء الحياة لايكون بتحقيق رغبة فئة خاصة بعينها من الناس، وإلا لكانت هذه الفئة تطمع في إبادة الآخرين، ومحوهم من الوجود، وكانت كل أمة تريد نقيض ماتريده الأمة الأخرى، بل إن المرء يختلف حتى مع نفسه؛ فجسده يتفاوت: له عين، وأذن، ويد، ورجل، والله -سبحانه وتعالى- يقول: {أّلّمً نّجًعّل لَّهٍ عّيًنّيًنٌ، وّلٌسّانْا وّشّفّتّيًنٌ، وّهّدّيًنّاهٍ النَّجًدّيًنٌ} [البلد: 8 - 10]، وهو أيضاً اليوم على حال، وغداً على حال أخرى، كما قال ربنا تبارك وتعالى: {لّتّرًكّبٍنَّ طّبّقْا عّن طّبّقُ} [الانشقاق: 19] يعني: حالا بعد حال؛ فهناك الطفولة والشباب، والكهولة والشيخوخة، والهرم، وهناك الغنى، والفقر، وهناك الصحة، والمرض، وهناك العلم، والجهل، وهناك أحوال وأطوار يمر بها الانسان. حتى كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إنّى وَاللَّه إنْ شَاءَ اللّهُ لاَ أحْلِفُ عَلَى يَمِينِ فَأرَى غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا، إلا كَفَّرْتُ عَنْ يَميِنيِ، وأتيتُ الذي هو خير» (أخرجه البخاري «31333»، ومسلم (1649)واللفظ لمسلم من حديث أبي موسى الاشعري رضى الله عنه)، فهو يرى في بعض الأوقات أن هذا خير حتى يقسم عليه -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- ثم يبدو له خلافه؛ فيكفر عن يمينه، ويأتي الذي ظهر له أخيراً أنه خير، وقد يرى المرء الرأي صباحاً ثم ينقضه في المساء، ومن بديع الحكمة الربانية أن الله -تبارك وتعالى- منح الناس حق الاختيار، كما قال سبحانه: {)وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (الكهف:29)
وقال سبحانه: {وّهّدّيًنّاهٍ النّجًدّيًنٌ}، وحمَّله مسؤولية هذا الاختيار: إما جنة عرضها السماوات والأرض، أو ناراً تلظى {(إِنَّا أَعتَدنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِم سُرَادِقُهَا وَإِن يَستَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالمُهلِ يَشوِي الوُجُوهَ بِئسَ الشَّرَابُ وَسَاءَت مُرتَفَقاً) (الكهف:29)
} [الكهف: 29] ، ولو شاء الله -سبحانه وتعالى- لجعل البشر كلهم ملائكة مطيعين {لاَّ يّعًصٍونّ اللّهّ مّا أّمّرّهٍمً وّيّفًعّلٍونّ مّا يٍؤًمّرٍونّ} [التحريم: 6]، ولكنه أراد أن يخلق خلقاً فيبتليهم، كما قال سبحانه: {وّلّكٌن لٌَيّبًلٍوّ بّعًضّكٍم بٌبّعًضُ} [محمد: 4]، وهذا ليس ابتلاء في ميدان القتال والحرب والعراك فحسب، بل في ميدان الحياة كلها، ولهذا شرع الله -تعالى- لنا الإحسان في الحرب والقتل والذبح، كما في حديث شداد بن أوس قال: ثنتان حفظتهما عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته» (أخرجه مسلم 1955م). فالنبي -صلى الله عليه وسلم- ضرب لنا مثلا في الإحسان أبعد مايكون عن ذهن الانسان، وهو الإحسان حتى وهو يقتل من يستحق القتل، أو يذبح بهيمة، أو نحو ذلك، وهكذا شرع لنا الله الاحسان بين الزوجين، وبين الجيران، وبين الشركاء، ووضع أسس الاخلاق والمعاملات بين الناس، قريبهم وبعيدهم، كما شرع الله لنا الاحسان في الدعوة، وتأليف القلوب على الخير، وتحبيب الناس إلى الهدى، حتى جعل الله في الزكاة سهماً للمؤلفة قلوبهم، ومنهم الكافر الذي يرجى إسلامه، أو المسلم الذي يرجى قوة إيمانه، أو الكافر الذي يرجى دفع شره، أو الكافر الذي يرجى اسلام نظيره. كما شرع الله لنا الاحسان لذات الاحسان، حتى لو لم يكن الهدف من ورائه الدعوة، وجعل في الإحسان أجراً حتى من غير استحضار نية التقرب والتعبد. وحينما وصف الله نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم- بقوله: {وّإنَّكّ لّعّلّى" خٍلٍقُ عّظٌيمُ} [القلم: 4] لم يكن خلقه صلى الله عليه وسلم مقصوراً على أولئك الذين يطمع في دعوتهم، بل حتى قبل بعثته صلى الله عليه وسلم كان مثلاً أعلى في حسن الخلق مع الخاص والعام، أما بعد بعثته، وبعد نزول الوحي عليه، فكان شيئاً آخر غير ما عهده الناس؛ ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «في كل كبد رطبة أجر» (أخرجه البخاري (2363) ومسلم (2244) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه)، «والشاة إن رحمتها رحمك الله» (أخرجه أحمد (15165) من حديث معاوية بن قرة عن أبيه)، وسقت امرأة بغي - من بني اسرائيل- كلباً يلهث؛ فشكر الله لها، فغفر لها حتى تعجب الصحابة وقالوا: يارسول الله! إن لنا في البهائم لأجراً؟. إن الدين لم ينزل كما يظنه البعض لتأجيج الصراع بين الناس، بل لضبط العلاقة وتنظيمها وعمارة الأرض {هٍوّ أّنشّأّكٍم مٌَنّ الأّرًضٌ وّاسًتّعًمّرّكٍمً فٌيهّا} [هود: 61] ولهذا لما خلق الله آدم؛ خلقه من أجل عمارة الأرض، والسعي فيها، والضرب فيها؛ قالت الملائكة لربها تبارك وتعالى: {(أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:30)
فعلموا ان الفساد في الأرض، وأن سفك الدماء مما يكرهه الله -عز وجل-، ولم يخلق البشر، ولم ينزل الكتب من أجله. لقد جاءت الشرائع بحفظ الضرورات الخمس المعروفة، وتحريم القتل والزنا والكذب والسرقة والظلم وغير ذلك.
إن من الضروري إذاً ان يختلف الناس: أولاً: لاختلاف عقولهم وأفكارهم وتفاوتها في مداركها: في معرفة فقه المقاصد والمآلات، في معرفة المصالح، في معرفة الأولويات وترتيبها وفقهها، ومعرفة الفاضل من المفضول. ثانياً: يختلف الناس لاختلاف النفسيات، والميول، والأمزجة، والتركيب بين هذا وذاك. ثالثاً: يختلفون لاختلاف درجة التجرد والاخلاص، والقدرة على الانفصال عن المؤثرات، سواء كانت مؤثرات نفسية، أو اجتماعية، أو سياسية أو غيرها. رابعاً: يختلفون لتفاوت معلوماتهم، سواء كانت معلومات شرعية أو غير ذلك؛ ولهذا اختلف الانبياء عليهم الصلاة والسلام، كما اختلف موسى وهارون، وموسى والخضر، وداود وسليمان واختلف الصحابة رضي الله عنهم، كما اختلف ابوبكر وعمر بحضرة النبي -صلى الله عليه وسلم- واختلف ابن عباس ومعاوية، واختلف عثمان وعلي، واختلف الأئمة من بعدهم كالأربعة وغيرهم. وهذا الخلاف في أصله رحمة وسعة، وإنما يكون الحرج والضيق إذا داخل الخلاف هوى أو حظ نفس، أو تعامل معه بطريقة غير شرعية؛ فتحول إلى نوع من الفرقة والتنازع والشتات بين المؤمنين، ولهذا لما كتب رجل كتابا وجاء به إلى الإمام أحمد -رحمه الله- قال: هذا كتاب سميته «كتاب الخلاف»، فقال له: لا تسمه «كتاب الخلاف»؛ بل سمه «كتاب السعة». وهذا من فقهه -رحمه الله-. وقال بعض العلماء عن الصحابة: اتفاقهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة. وقال عمر بن عبدالعزيز: والله مايسرني أن أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- لم يختلفوا لأنهم لو اتفقوا وأجمعوا لكان خلافهم ضلالاً، أما وقد اختلفوا فكل سنة، وفي الأمر سعة. إن الناس يحتاجون إلى الحساب في معاملاتهم، وبيعهم وشرائهم، ولذلك كان للحساب أصول وضوابط وقواعد، كما يحتاجون إلى النحو في كلامهم وحديثهم، وأخذهم وعطائهم، ومن هنا جاءت قواعد النحو والإعراب، وهم بالقطع يختلفون؛ ولذلك تأتي ضرورة وجود قواعد وآليات يسير عليها المختلفون.
|