تواجه المملكة حملات مسعورة متواصلة، قبل أن تنطفىء الواحدة منها تنطلق حملة جديدة.. وكل حملة تغذي الأخرى وتزيد الأولى من اشتعال الثانية.. والحملات السابقة تهيئ للحملات اللاحقة.. وهذه الحملات تؤسس لمزيد من الحملات التي تأتي مستقبلا.. وهكذا تعيش المملكة اليوم اشتعال حملات متتالية.. هذه يبدؤها أعضاء في الكونجرس.. وثانية يتولاها تقرير راند.. وثالثة تنطلق من تسريبات البينتاجون.. ورابعة تتأسس من تحقيق أجرته صحيفة «النيويورك تايمز».. وخامسة من لقاء تلفزيوني.. إلخ.. وكل هذه الحملات لها هدف واحد، ولكن عبر وسائل مختلفة.. تعددت الحملات والهجوم على المملكة واحد..
يحق لنا أن نسأل؟
يجب أن نتصارح في هذه المسألة الهامة والخطيرة، لأنها تمسنا جميعا، وتمس قياداتنا، وتمس مؤسساتنا، وقيمنا، ومستقبلنا.. ولهذا يجب أن نطرح عدداً من الأسئلة المحورية في هذا السياق.. وبدون تغليف للحقائق أو دبلوماسية للعرض نريد أن نصرخ عالياً وبصوت مسموع.. ومن أجل الوطن:
لماذا فشلت حملات التصدي التي قمنا بها لمواجهة الحملات المعادية للمملكة.. ولماذا تستعر هذه الحملات.. وتزيد.. وتتنامى في تحديها السافر.. ولماذا أخفقنا رغم الامكانات التي أعطيت لمثل هذه الحملات.. ورغم الصلاحيات الكبيرة التي منحت للقائمين عليها.. هذه مجموعة أسئلة جوهرية نفكر فيها دائما.. ومن حقنا أن نجد الإجابات الشافية عنها..؟
ماذا نرى؟
نحن نتابع جهودا متفرقة هنا وهناك، قليل في الداخل، كثير في الخارج.. ونسمع ونشاهد مناوشات اعلامية، ونتابع اعلانات صحافية وتلفزيونية، واذاعية.. ولقاءات وتصريحات تجريها وكالات الأنباء العالمية وشبكات تلفزة دولية.. نحن نرى ردوداً سعوديةمتفرقة هنا وهناك.. على حملات كبيرة.. ونشاهد تفاعلات محدودة مع الرأي السعودي.. ومع السياسة السعودية.. وعلى الرغم من ذلك لا نزال نراوح في المربع الأول.. في حين أن الحملات قد قطعت أشواطاً كبيرة ووصلت إلى المربع الألف.. ونكاد من فرط هذا الإخفاق نساهم - نحن بسلبيتنا - في تكريس صور نمطية بدأت تترسخ في ذاكرة الناس وخيالات الإعلام أننا شعب «ارهابي» بأفراده ومؤسساته ودينه ومناهجه وقيادته وشعبه.. هذه نتيجة خطيرة اذا سمحنا لها أن تتحول إلى صورة نمطية لدى المجتمعات سنكون على قائمة المطلوبين لعقود وليس لسنوات قادمة.. وستكون المملكة القيادة والشعب والمؤسسات في مواجهة مستمرة مع معظم دول العالم، وخصوصا الدول ذات التأثير السياسي والاقتصادي والعسكري إلى أمد ليس بالقصير.. نحن نرى اليوم جهود شركات علاقات عامة أمريكية في واشنطن تحاول أن تدفع ببعض الشخصيات السعودية إلى وسائل الإعلام لتدافع عن مواقف المملكة، وترد على أقاويل ومواقف عدائية.. نحن نرى واجهات سعودية لحملات علاقات عامة كلاسيكية تسعى إلى كسب معركة ولكن خسارة حرب كبيرة ضد حضارة المملكة.. نحن نرى كذلك أن كل هذه الجهود رغم أهميتها إلا أنها تظل متأخرة كثيراً عن مطاردة المارد الكبير الذي ينمو يوماً بعد يوم.. وأحياناً ينمو بمضاعفات هندسية متغذيا بأخطاء أو سلبيات في حملاتنا السعودية.. هذا هو الموقف الحالي..
ملاحظات جوهرية على ما نرى؟
1 - لقد لاحظنا أخطاء في المهنية التي تعمل من خلالها شركة العلاقات العامة في واشنطون لم يكن من المفترض أن ترتكبها في سير حملتها التي تدافع بها عن المملكة.. فلم نصدق بتاتا أن تتوشح هذه الحملات بإعلانات تنتشر في وسائل الإعلام الأمريكية مفادها.. «ثقوا بالرئيس ولا تثقوا بالإعلام..».. ومن ابجديات المعرفة بالمجتمع الأمريكي التي يعرفها القاصي والداني أنه على مر عقود زمنية طويلة احتلت الحكومة الأمريكية مرتبة متأخرة -على مستوى ثقة الناس- بعد عدد من مؤسسات المجتمع الأمريكية.. بما فيها مؤسسة الاعلام.. ومثل هذا الإعلان من شأنه أن يكون مثار «سخرية» الناس، ومن شأنه وهذا أخطر ما فيه أن يستعدي مزيدا من مؤسسات الاعلام ضد المملكة.. ودليل ذلك أن عدداً من مؤسسات الإعلام الأمريكية رفضت بث مثل هذه الإعلانات حتى ولو أنها خسرت ملايين الدولارات.. اذن هناك أخطاء مهنية فادحة كنا آخر ما نتوقعه من شركة جاءت لتعيننا.. وبدلاً من ذلك ضاعفت من مصيبتنا.. وزادت من عدائية وسائل الإعلام الأمريكية لنا..«جيتك يا عبدالمعين...»..
2 - حدث أن أقدم عدد من المسؤولين عن ملف الحملة السعودية في هذه الشركة باستقالات أثرت كثيراً على صورة الشركة وتعاطيها مع المنتج السعودي.. ولا سيما أن هذه الاستقالات فهمت على أنها احتجاج على سياسة سعودية معينة.. وهذه تغذية «ممتازة» للحملات الإعلامية العدائية ضد المملكة..» فقد أسهمنا في تنامي الحملة ضدنا..!!
3 - ونسأل سؤالا جوهريا.. عن أداء هذه الشركة.. هل تم تقييم موضوعي لدورها ومدى نجاحها في الدفاع عن سياسات المملكة.؟ فمن المعروف أن أي حملة يكون من الأسس الأساسية لها أن تبدأ بتقييم معين عن المنتج أو الصورة.. من خلال استطلاعات عن صورة المملكة في المجتمع الأمريكي.. ثم هل تم تقييم آخر لمدى نجاح الشركة في مهمتها؟ ونحن بحكم التخصص نعرف أن عملية التقييم تأخذ محورين.. أولهما دراسة تحليل مضمون وسائل الإعلام الأمريكية قبل الحملة وبعدها.. وحيث لم تنته الحملة يتم التعرف على تدرج التغطية وهل هي إلى الأفضل أم إلى الأسوأ.. ونحن نراها إلى الأسوأ... أما البعد الآخر في تقييم الحملة فهي استطلاعات الرأي العام الأمريكي تجاه المملكة قبل الحملة وخلال منعطفات مهمة من الحملة.. وهذا لا أستطيع أن أفتي فيه..
4 - من المعروف أن الحملات الإعلامية تتجسد في عدد من الشخصيات التي تحمل رسالة الحملة.. فهل الطاقم الذي يقوم بإصدار التصريحات وشرح السياسات لا يزال يحمل مصداقية كبيرة لدى وسائل الإعلام وصاحب القرار والمتلقي الأمريكي؟ هذا سؤال مهم.. وإلا إذا كانت غير ذلك.. فإننا نقوم بحرق هذه الشخصيات.. وهذا يشكل خطورة كبيرة على مجرى الحملة السعودية في المجتمع الأمريكي.. فإذا كان الناس لا يثقون مثلاً في شخص، فلماذا نجازف في وضعه في سُدّة المواجهة متعشمين نجاحه في مهمة ميئوس منها أساسا..
5 - من الملاحظ أن ملف إعلام الأزمة التي نعاني منها اليوم ومنذ 11 سبتمبر، موجود في واشنطن وكأنه غير موجود في الرياض.. ومن المعروف أن المصادر التي تتغذى عليها الحملة السعودية في واشنطن هي محدودة إلى حد كبير.. فهي تعتمد على مجموعة اتصالات هاتفية إلى الوطن ليس إلا.. ثم أحاديث انشائية هنا وهناك.. ونفس الأصوات والوجوه تتكرر في هذه الحملة..
6 - من المفترض أن تكون إدارة هذه الحملة السعودية من المملكة وليس من واشنطن أو أي مكان في الخارج.. وذلك بمجموعة أسباب، منها:
أ - عندما تكون إدارة الحملة من المملكة، يتم الاستفادة من مختلف مصادر الدعم السياسي والفكري والمؤسسي.. وفق استراتيجية واحدة تخاطب واشنطن ولندن وطوكيو وموسكو.. وكل الخارج..
ب - بالشكل الحالي يوجد تباين واضح في توجه ومحتوى الحملات السعودية في الداخل والخارج.. وأحياناً - وهي كثيرة - تكون رسالة الخارج متصادمة مع قيمة أو سياسة أو تقاليد سعودية داخلية.. ولهذا تسعى الحملات الدعائية ضد المملكة من استدراج مواقف وتصريحات داخلية لتجسد تضادا مع فكر وسياسة الحملة في الخارج.. ونفس الشيء أيضاً يلاحظ الرأي العام السعودي تناقضا فيما يعرفه عن سياسات المملكة وثوابتها مع تلك الرسائل التي تتداولها وسائل الإعلام الأمريكية والعالمية وتكون قد غذتها بها رسائل الحملة السعودية من واشنطن..
ج - لا يوجد تناغم واضح يعزز استراتيجية الحملة بين القرار الداخلي والسياسة الإعلامية في الخارج.. فمن المفترض لو كانت إدارة الحملة من الداخل لكانت هناك فرص كبيرة لتناغم الحدث السياسي السعودي الداخلي والخارجي مع مضمون وتوجه الحملات السعودية في الخارج..
7 - أستطيع أن أشبه ما يدور حالياً من جهود إعلامية خارجية لمواجهة الحملات الضخمة التي تواجهها المملكة، مثل الذي أقحم في حريق كبير وعليه أن يطفئ هذا الحريق بمفرده وبيد واحدة.. ونظل نحن في حكم المتفرجين نتابع جهوده وتفانيه في عمليات الإطفاء.. صحيح أنه يطفئ مساحة محدودة من الحريق ولكن الحريق يزداد اشتعالا..
8 - انني أقترح أن تصبح لدينا إدارة مركزية لإدارة هذه الحملة من داخل المملكة.. فالجهود الإعلامية التي تظهرها هذه الحملة السعودية من واشنطن ليست إلا رأس الجبل الجليدي.. فلماذا لا نحاول أن نظهر كل الجبل الجليدي إلى السطح؟ وهذا ما أقصده باستظهار الإرث الكبير من السياسات والقيم والفكر السعودي الذي يمكن أن يساهم في بلورة حملة متناغمة بين ما نعيشه هنا وما ندفع به إلى الخارج..
9 - ونعرف أنه توجد في الداخل عدد من اللجان الإعلامية المشكلة من بعض الأجهزة الحكومية، ولكنها بكل أسف رغم القيمة العلمية والمؤسسية للأشخاص إلا أن عمل هذه اللجان يظل مفعما بالبيروقراطية، التي تعيق تحركاً سريعاً تستلزمه الأزمة.. كما أن التوصيات التي تفرزها هذه اللجان تظل كذلك متواضعة في توجهاتها ومضامينها.. وتنزع إلى الحلول الترقيعية لإرضاء كل الأطراف ذات العلاقة..
10 - وفي حالة إعادة ملف إعلام الأزمة إلى الداخل فإني لا أقترح بأي شكل من الأشكال إعادته إلى وزارة الإعلام، بل يمكن الاستفادة من وزارة الإعلام كقوة تنفيذية للحملة الداخلية وليس كقوة تخطيط وإدارة، وذلك لنفس الأسباب التي ذكرناها عن بيروقراطية الأجهزة الحكومية وكيف أن الأداء البيروقراطي يعيق الخروج عن النصوص المألوفة.. وحملة عالية المستوى والتعقيد تحتاج إلى هيكلة جديدة حتى في التفكير الإعلامي..
وختاماً، فإني إذ أوجه هذه الرسالة إلى صاحب السمو الملكي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز صاحب المبادرات وصاحب الرؤية والفكر المستنير، وحامل الهم الوطني الكبير الذي نعيشه، أتمنى أن يتحقق على يد سموه تحرك حقيقي في هذه المسألة الهامة.. وربما هناك حاجة ملحة لتكوين مجلس أو هيئة أو لجنة عليا برئاسة سموه لتكون في قمة اهتمامها إدارة هذه الأزمة الخطيرة التي نواجهها في الداخل والخارج.. وتكون واشنطن ولندن وباريس وموسكو وطوكيو.. ووزارة الاعلام والجامعات والمؤسسات المجتمعية قوى تنفيذية لإستراتيجية إعلامية واحدة تضعها وتشرف عليها وتتابعها هذه اللجنة أو الهيئة..والله الموفق..
(*) رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية للإعلام والاتصال
أستاذ الإعلام المساعد بجامعة الملك سعود
|