Friday 5th september,2003 11299العدد الجمعة 8 ,رجب 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

دين العدل والوسطية دين العدل والوسطية
د. بجاد بن زياد الروقي

لا غلو ولا جفاء ولا إفراط ولا تفريط بل «أمة وسطا» تنتهج دين السماحة والعدل والبعد عن الحرج والتكلف قصداً لتزكية النفس والعلو بها إلى سامي الأخلاق وطيب الأفعال، ونجاة لها من الانحدار والحقد والرذيلة وهوى في الضغينة، إذ يبتغي الشرع الحنيف من العبادة التي كتبها على المؤمنين أن يجنح بالنفوس عن السقوط ويرتفع بها عن الثرى فالله سبحانه يقول {وّمّا جّعّلّ عّلّيًكٍمً فٌي الدَينٌ مٌنً حّرّجُ} لأن الدين ليس مشقة وعنتا بل سعادة وتطهير وتزكية، وسمو على الصغائر وسلامة من النقائص، وتعال عن منحدر الأخلاق وبعد عن الهوى وأحقاد الضغائن فهو نور الله يستضيء به خلقه ومنهج خير البشر، بشر في الوجوه وبشارة للأرواح ويسر في الأداء وكمال في السلوك وحكمة في الأحكام ورحمة على الأنام، فليس لأحد أن يقلب ظهر المجن ويجيء بدين جديد ما كتبه الله ولا سنة رسول الله، وليس لابن أمة أن يدعي فقهاً أحكم من فقه من تربّوا على يد خير البرية، يصرف به العباد عن المحجة البيضاء وتنوء به عصم الجبال مستبدلين الشدة باللين طارحين اليسر آخذين بالعسر، متكلفين الغلو مجانبين الاعتدال لا يبرأون من الأهواء، بل يعيشون على الأحقاد، متناسين أو متجاهلين ورع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما سطروه من أخلاقيات ايمانية بها فتحوا البلاد ونقشوا عجائب الأعمال وبهروا الخلائق فيما أسدوه من كريم الخصال وعظيم الأخلاق، أفنستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، ونتلقى علومنا في حالك الظلمات من متلفعين بالخمر منزوين في سراديب ملتوية ليتلبد في صدورنا صديداً وتنفثه ألسنتنا قيحاً أسود.
الإسلام دين العدل والوسطية وهما سمته وبهما يتصف المسلم الحق ويتميز بهما عن غيره، حيث يظله دين وسطي العقيدة عدل الشريعة التي تحقق المصالح وتدفع الأضرار وتعدل بين الأفراد وتحافظ على مصالح الجماعة.
وفي عباداته يسر وسهولة وبعد عن التكلف والمشقة، إذ بهما يتحقق النفع الذي هو قصد الشرع الحنيف، ولذا فعباده ليس لها واقع عملي وسلوك انساني رفيع، فالشك أنها عادة لا عبادة، حيث أنها لم تؤت ثمارها ولم تؤثر في صاحبها وتعلو به لينتج عنها خلق مهذب يهيئ حياة سعيدة ومآلاً طيباً، وإلا فالعمل أصبح هباء وعنتا ولم يحقق نتيجة، وهذا مصداق قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» فعمل لا يثمر خيراً تكون عاقبته وبالا ويصبح الجهد فيه هباء منثورا، بل مشقة وشرا.
وعبادة لا تحيي قلوبا ولا تحرك شعورا ليست أداء لطاعة وانما هي تكلف وعناء وحرج مخالف لمراد الدين فالله يقول: {هٍوّ اجًتّبّاكٍمً وّمّا جّعّلّ عّلّيًكٍمً فٌي الَينٌ مٌنً حّرّجُ} ويقول سبحانه: {يٍرٌيدٍ اللهٍ بٌكٍمٍ اليٍسًرّ وّلا يٍرٌيدٍ بٌكٍمٍ العٍسًرّ} إذ حقيقة الطاعة ان تنفذ ما أمرت به بلا زيادة ولا نقصان، لا أن ترى في الأوامر قصوراً تكمِّله ونقصاً تتمه وموت غيرة تحييها، فتملي شرعاً ما شرع وتسن سنة ما وردت، لتخرج من محيط الدين إلى محيط الهوى ومن السماحة للعسر ومن العدل إلى الغلو.
إن الوسطية تحقق للفرد ذاتيته المستقلة سواء له أو عليه، فالله يقول: {وّلا تّزٌرٍ وازٌرّةِ وٌزًرّ أٍخًرّى"}،
كما تعترف للجماعة بمصالحها المقدمة على مصلحة الفرد دون الاضرار به، موفقة بين منفعته ومصلحة الجماعة ما أمكن وإلا فالجماعة مقدمة ونفع الكثرة أولى من نفع الواحد.
والوسطية تعني العدل الاجتماعي، ففي الوقت الذي جعلنا الله شعوباً وقبائل فإن أكرمنا عند الله أتقانا، فلا قبيلة ولا لون يرفعان أحدا ما لم يكن تقوى وعملاً صالحاً، وخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا، ولو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع رسول الهدى يدها، تلك قواعد سيادة الأمة فإن لم تكن كذلك فآذن بهلاكها.
والوسطية تعني التكامل الاجتماعي لمن يستحق، وتدعو المقتدر للعمل وكسب اليد، فلا مكان للمتسلقين والمتسولين وانما نفس عصام سودت عصاماً، ولا مجال لسادة وعبيد صلتهم الدراهم لا القيم.
وديننا وسط يؤلف بين نوازع النفس وما فيه نفع، فالشجاعة مطلبها الحق ومجالها الجهاد، لا تنزع عن ضغينة ولا تريد تحقيق مآرب خاصة، فعلي بن أبي طالب أهوى بسيفه على كافر ليقتله تقرباً لله فلما كاد ولما بصق الكافر في وجه علي فرفع السيف عنه فسئل: لم؟ فقال: حتى لا يختلط ما لله بما لنفسي، والزواج ليس محضاً لتلبية الغريزة الفطرية ومتعة ثور أهوج، بل لصون المسلم وحفظ الجماعة المسلمة في أنسابها وتكثير نسلها.
ومن وسطية الإسلام سعة أعماله والمساحة العريضة التي يتيحها لأتباعه ليمارسوا فيها أنفع الأعمال وأشرفها بدءاً من قول لا إله إلا الله، وإلى إماطة الأذى عن الطريق، فلماذا أُحجِّر واسعاً وأُضيّق فسيحاً، وأرغم الذات على كلفة وأتوهم أن الخير في الشدة، في حين أن كلا واجد عملاً يشارك به في نفع غيره حسب طاقته ودون عنت.
إن الإسلام في سعته أباح اقتناص الخير أياً كان، ومن أي مكان كان إذا أدى لأهداف الشرع الحنيف، ف «الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها» ما لم تضاد معتقده أو تحرف شرع ربه، وما يتفق مع منهج الإسلام ويصب في جداول أنهاره ويصل بالإنسان إلى مقاصد الدين فثمة شرع الله، إن حلف الفضول الذي كان في الجاهلية وشهده رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بعثته وتباهى به فقال: «لقد شهدت في دار ابن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت إليه في الإسلام لأجبت» نمط يمكن تكراره.
ومن وسطية الإسلام أنه دين اليسر والسهولة، لا مشقة في عباداته ولا عنت في أعماله، وإنما هو سماحة ورفق وبعد عنه الغلو والحرج. قال صلى الله عليه وسلم: «إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين»، وعرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ما خير في شيئين إلا اختار أيسرهما، وعنف صلى الله عليه وسلم معاذاً رضي الله عنه لما أطال في الصلاة وهي فريضة حتى لا تكون فتنة ودعا على من تسبب في قتل الصحابي الذي اغتسل من الجنابة.
ومن الوسطية التوازن بين الروحي والمادي فلا رهبانية مطلقة في الإسلام ولا انعزال عن الدنيا وترك تحصيل المعاش وطلب الرزق وانما هو عدل بين المطالب المادية والروحية، قال سبحانه: {(وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) ومن الوسطية اقتران الدين بالعقل والعلم بالإيمان، فالتوجيهات الربانية والأوامر الإلهية تقرن عادة بالدعوة للتدبر وإعمال العقل، كما أنّ الإيمان والعلم مرتبطان لا يطغى أحدهما على الآخر وإلا صار العلم وبالا وأصبح الإيمان عاطفة لا تحده ضوابط ولا تحكمه مناهج ولذا قال جل وعلا: {إنَّمّا يّخًشّى اللهّ مٌنً عٌبّادٌهٌ الپًعٍلّمّاءٍ} لأن تلك الخشية المحكومة بالعلم هي التي تعطي ثمرة يانعة لا مريضة، وفي الجماعات قديماً وحديثاً من لم يحسن الجمع بين العاطفة والعقل ومن التفريط في أحدهما يكون التعثر ثم الموت.
كما أنّ وسطية الإسلام تراعي الأحوال ومار تقتضيه مصالح الناس المتجددة في كل الأزمان، وهذا مدلول قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبعث من هذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها) المبين للاجتهاد بحسب الأحوال وتغير الزمان والمكان، مع ملاحظة أنّ هناك أحكاماً قطعية لا تتغير ولا تتبدل وأحكاماً اجتهادية في المعاملات وما ينفع الناس.
ووسطية الإسلام في حفظ حقوق الإنسان ليست تلك الحقوق التي تجمعه بالحيوان وإنما التي تعزه وتحفظ الكرامة والعقل والدين والنفس وتجلب النفع وتدفع الضرّ ولا تتعدى على حقوق الآخرين.
والشورى ليست في كل شيء ولا من كل أحد، بل فيما هو محل اجتهاد وممن هم من أُولي النُّهى والابصار وفي إطار منهج الإسلام.
والعدل جاءت وسطيته من الرضا بحكم الله وشرعه: {فّلا وّرّبٌَكّ لا يٍؤًمٌنٍونّ حّتَّى" يٍحّكٌَمٍوكّ فٌيمّا شّجّرّ بّيًنّهٍمً } وعدم محاباة أحد فالناس سواسية متساوون تعلو بهم التقوى وتهلكهم الكبرياء، قال صلى الله عليه وسلم: (إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد).
ووسطية في الاقتصاد، فالمال مال الله يصرف وفق أومره دون غمط لذوي الحقوق أو أهمال للمحتاجين بل عدل بين المقتدر والفقير وسمو للنفس وتطهير لها من الأدران، قال تعالى: {خٍذً مٌنً أّمًوّالٌهٌمً صّدّقّةْ تٍطّهٌَرٍهٍمً وّتٍزّكٌَيهٌم بٌهّا}.
ولم يترك الحبل على الغارب لمن يحتكرون المال ويغلقون مصادره دون الكادحين:{كّيً لا يّكٍونّ دٍولّةْ بّيًنّ الأّغًنٌيّاءٌ مٌنكٍمً}.
كما دعا الإسلام إلى الوسطية في الإنفاق والتدبر حين البذل فقال سبحانه: {وّلا تّجًعّلً يّدّكّ مّغًلٍولّةْ إلّى" عٍنٍقٌكّ وّلا تّبًسٍطًهّا كٍلَّ البّسًطٌ}.
إنَّه دين الوسطية الحق لا غلو ولا جفاء ولا إفراط ولا تفريط ولا زيادة ولا نقص، كل شيء فيه بعدل، سمو في العقيدة، ويسر في العبادة، وكمال في الأخلاق.
وحين نخرج عن الاعتدال ونتجاوز حد الوسط نصبح على طرف جرف هار لن نلبث أن نهوي في قاع لا قعر له نحاول أن نبني جدره من المخازي والأخطاء ومن ثم العواقب الوخيمة، إذ من جاوز الحد الآمن حري بالسقوط في الخطر، ومن تعدّى حدَّ الحلال انقلب إلى الحرام، وكل شيء لا اعتدال فيه ينقلب إلى ضده، فالأكل غير المعتدل يصبح تخمة تجر مرضا، والدواء المتعدي جرعات الوصفة يُودي للموت، والعبادة التي تجاوز سنة الرسول صلى الله عليه وسلم تصبح تشدداً وغلواً ورهبانية مبتدعة ما كتبت على متعبد، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ان هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسدِّدوا وقاربوا وأبشروا).
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا جاوز حدَّ الكلام والنقد البناء يصبح حكماً لم يفت به قاضٍ.
وهكذا كان المراد من هذه الأمة ما يوافق صفتها ومحققا لرحمة ربها: {هٍوّ اجًتّبّاكٍمً وّمّا جّعّلّ عّلّيًكٍمً فٌي الدَينٌ مٌنً حّرّجُ}، أفلا نُسلِّم بحكم الله مُنزها دون أن نلصق به أهواء بشرية متربة لنكون خير أمة أخرجت للناس متمسكة بمؤهلات خيريتها متقربة إلى الله بثوابت نصرتها، عسى أن تقوم من كبوتها يوم أن يكتب الله لها من يؤمن بيوم المعاد يقود الركب إلى حيث يوجد الري.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved