Friday 5th september,2003 11299العدد الجمعة 8 ,رجب 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

أين موقعنا من الاقتصاد الجديد؟ أين موقعنا من الاقتصاد الجديد؟
د. عبدالعزيز إسماعيل داغستاني (*)

لم يعد الاقتصاد الجديد ترفاً فكرياً أو محوراً نظرياً يتطلع إليه الاقتصاديون كتأكيد على استحقاقات النظام العالمي الجديد وكمظهر من مظاهر العولمة، بل أصبح واقعاً ينافس بقوة أنماط الاقتصاد التقليدية إن لم يكن تجاوزها أو أوشك على ذلك، لقد جاء الاقتصاد الجديد كنتيجة حتمية لثورة المعلومات والاتصالات والتطورات التقنية المذهلة حقاً والتي خلقت بقوى دفعها الأمامية والخلفية قطاع خدمات متطوراً غيَّر بشكل جذري مفهوم التجارة التقليدية وفتح آفاقاً غير محدودة وشكّل مناخاً استثمارياً جديداً تجاوز عقبات الحدود وحطم أسوارها المنيعة وصاغ نمطاً إنتاجياً حديثاً فرض أسلوبه بقوة وتسارع وجسد المفهوم المادي للعولمة.ولم تستغرق هذه التحولات زمناً طويلاً بل تسارعت خطاها منذ أن رسم انهيار الاتحاد السوفييتي بداية طريق العولمة، كان مفهوم ميخائيل جورباتشوف يعتمد على إطلاق الحرية السياسية أولاً للوصول إلى الحرية الاقتصادية، ولم يكن مفهومه ناجحاً لأنه اصطدم بالواقع الذي بلورته قوى اقتصادية فاعلة مثل الصين التي آمنت بأن الحرية الاقتصادية تأتي أولاً لتكوِّن القواعد المادية التي يمكن أن تنمو عليها الحرية السياسية. والحكمة هنا هي أن سيطرة فعاليات القطاع العام على النشاط الاقتصادي في الدول النامية يتنافى بالضرورة مع مبدأ الحرية الاقتصادية، ومن هذا الواقع لا بد وأن تبدأ حركة الاصلاح والتغيير، أي أن يكون الاقتصاد أولاً.
ورغم تباين هذه الرؤى، إلا أن التغيرات العملية وواقع الحال أكد أن الوصول إلى الاقتصاد الجديد لا يستغني عن استثمار ثورة المعلومات والتطورات التقنية ولكنه يتطلب قراراً سياسياً يتجاوز الرؤية الإيديولوجية الضيقة التي كبَّلت مسيرة التغيير وساهمت في تعثر التحول نحو اقتصاد السوق في أجزاء مؤثرة من العالم، إذ لا يمكن أن تستفيد الدول النامية من معطيات الاقتصاد الجديد إلا إذا وفرت الدولة وأمنت مناخاً مواتياً لفعالياته وأدواته وأعادت تشكيل هيكل الاقتصاد بشكل يسمح ببناء اقتصاد الخدمات، وإذا نجحت الدولة في توفير هذا المناخ وتأمينه تكون قد تركت لعناصر الانتاج حرية التغير والتكيف، وذلك هو المدخل العملي لتفعيل وتنمية الاقتصاد ومواكبة النظام الاقتصادي العالمي الجديد.
والاقتصاد الجديد هو الحصان الأسود في الساحة الاقتصادية العالمية التي يمكنها أن تستوعب كل من يدرك سر اللعبة الاقتصادية الجديدة وينفض عن كاهل اقتصاده سماته التقليدية التي لم تعد قادرة على مقارعة اللاعبين الكبار فيها. ومعيار الحجم في هذه الساحة يختلف عن معايير الحجم في أنماط الاقتصاد التقليدية، وعلى سبيل المثال، فقد تمكن الاقتصاد الإسرائيلي من اجتذاب 6 ،1 مليار دولار أمريكي من الاستثمارات الأجنبية في استثمارات الاقتصاد الجديد في عام 2000م، وفي سوق نازداك جاءت الشركات الإسرائيلية في المرتبة الثالثة، ومكَّن انتشار اليهود وسيطرتهم على شركات المعلومات والتقنية الرقمية، إسرائيل من وسائل الربط الالكتروني وأن تكون دولة فاعلة في الاقتصاد الجديد، ومن الطبيعي أن إسرائيل قد وصلت الى هذا الوضع بأسس اقتصادية وتقنية استندت عليها، حيث تأتي إسرائيل في المرتبة الأولى في العالم بالنسبة لعدد المهندسين نسبة إلى إجمالي عدد العمال، والتي وصلت إلى 135 مهندساً لكل 10 آلاف عامل في صناعتها لعام 2000م، ولكن إسرائيل لم تكن لتصل الى ذلك بدون قرارات سياسية أسهمت في استثمار الواقع وتفعيل الربط الإلكتروني وتحكم اليهود في صناعات الاقتصاد الجديد، وهي قد أدركت أن النجاح في هذا الاقتصاد قد أسهم في رفع متوسط دخل الفرد الاسرائيلي السنوي الى نحو 17 ألف دولار أمريكي في عام 2000م، وهو ما يتجاوز دخل الفرد في كثير من الدول العربية، حتى البترولية.ويحفل التاريخ الحديث بشواهد كثيرة تعكس أهمية الدعم السياسي لتفعيل التغييرات الاقتصادية الابداعية، ولعل في مقدمتها دعم الحكومة الأمريكية لامبراطور الاقتصاد الجديد «بيل جيتس» عند بداية تأسيسه لشركة مايكروسوفت التي رسمت فيما بعد معالم الاقتصاد الجديد برمته، وهي التي فجرت ثورة تقنية المعلومات وأرست قواعد الاقتصاد الجديد وجعلت الولايات المتحدة الأمريكية مركز هذا الاقتصاد ولاعبه الأول بدون منازع، وتشير الاحصاءات إلى أن إنفاق الشركات الأمريكية على تطبيقات البرامج التي تدعم المبيعات الإلكترونية بلغ 8 ،4 مليارات دولار أمريكي خلال عام 2001م بينما كان 8 ،3 مليارات دولار أمريكي في عام 2000م وعلى الرغم من أن التجارة عبر منافذ التجزئة التقليدية مازالت تسيطر على نسبة كبيرة من مبيعات التجزئة الكلية في الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن حجم المبادلات التجارية الالكترونية يزداد بشكل مطرد.هذا الواقع في مهد الاقتصاد الجديد، الذي شهد أكبر صفقة تجارية في التاريخ باندماج شركتي أمريكا أون لاين مع تايم وارنر بقيمة 165 مليار دولار أمريكي، يبعث رسالة تحفيز الى اقتصادات العالم للتعامل مع الواقع الجديد والتقاط زخم هذا التوجه الحتمي للمعاملات التجارية والمالية في الحقبة القريبة القادمة ولا يسمح، أو ربما لا يغفر، بالتقاعس أو التأخير تأكيداً على القول، إن الاقتصاد الجديد لم يعد ترفاً فكرياً أو محوراً نظرياً.
ومن الطبيعي أن يشرع السؤال عن موقعنا في هذا الاقتصاد الجديد ونحن ندلف إلى الألفية الثالثة والتي يمكن وصفها في هذا السياق بالألفية الرقمية.
كان السائد في أدبيات الاقتصاد إلى وقت قريب تصنيف دول العالم بين دول نامية وأخرى متقدمة أو دول فقيرة وأخرى غنية عطفاً على قوتها الاقتصادية المبنية أصلا على درجة استغلالها لمواردها الاقتصادية المتاحة ومستوى توظيفها لتلك الموارد، ويبدو أن هجمة الاقتصاد الجديد ستغير من هذا التصنيف بحكم التحدي الكبير الذي سيواجه الدول النامية ويوسع الهوة التقنية بينها وبين الدول المتقدمة، وتشير التوقعات إلى أن قيمة المبادلات التجارية الالكترونية في العالم ستصل إلى نحو 3 ،1 تريليون دولار أمريكي في عام 2003م في حين لن تتجاوز قيمة هذه المبادلات في منطقة الشرق الأوسط 3 مليارات دولار أمريكي في العام نفسه.لقد أصبحت ثورة المعلومات وتقنيتها واقعاً يرسم معالم الاقتصادات المتقدمة في هذه الحقبة وسيكون لها في المستقبل الدور الأول في حياة الناس وتعاملاتهم اليومية لتتوارى خلفها كل التعاملات التقليدية السائدة، وهذا الواقع الحتمي يجب أن يحفز فينا العمل الجدِّي على تهيئة الاقتصاد والمجتمع لاستيعاب هذا الواقع والتفاعل معه وتهيئة المناخ الاستثماري الملائم وتوفير البنية التحتية الضرورية والبدء في تنفيذ إجراءات عملية تعمل على تطوير أنظمة التعليم ومناهجه وإعادة هيكلة الأنظمة والتشريعات القائمة بهدف تسريع خطوات تحويل فعاليات الاقتصاد بما يمكنها من استيعاب التقنية الرقمية وتطبيقها في فعاليات الاقتصاد وتغيير أنماطها التقليدية وإثراء قدراتها التنافسية لتواكب لغة العصر وتفهم مفردات علم الاقتصاد الجديد وتتعامل معه بمسؤولية وموضوعية.

(*) رئيس دار الدراسات الاقتصادية - الرياض.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved