جعل الله الناس قبائل وشعوباً ليتعارفوا وليتبادلوا المنافع التي اختص بها كل فئة منهم من حيث الموارد أو القدرات، وميزهم عن بقية مخلوقاته بالعقل والقدرة على التمييز بين المفيد والضار والصالح والطالح والخير والشر. ولم يجعل الله العقيدة حاجزاً أمام انتقال المنافع بأنواعها المختلفة من فكر أو إنتاج بين الناس. وجاءت التربية الإسلامية لتسمو بالإنسان المسلم إلى عقلانية الاختيار بما يتفق مع عقيدته من بين ما يخرج من يد البشر، جميعاً، مسلمين وغير مسلمين، من فكر أو إنتاج. وجسدت مواقف سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم هذه التربية الإسلامية في إرساء قواعد الاختيار العقلاني وتبادل المنافع الفكرية والمادية بين المسلمين وغيرهم، ودفعها لتكون المبادرة الإسلامية. هذا التأطير لمفهوم الاختيار في حياة المسلم فتح الباب أمامه للاستفادة من إبداعات وانجازات البشرية في مجالات الفكر والإنتاج.
الاختيار من هذا المنظور، يحمل أبعاداً سياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية مختلفة، وهو يهدف إلى دفع الإنسان المسلم إلى الاستفادة من انجازات وتجارب الغير واستعمال ما يتفق مع عقيدته ومبادئه، ولقد أساء بعض المسلمين فهم مدلول هذا الاختيار عندما تطرفوا في رفض بعض إنجازات الغرب بدعوى أنها غير إسلامية.
والاختيار من هذا المنظور، مفهوم ينطلق من توطين تلك الإنجازات وإخضاعها للمعايير الإسلامية، وهو الاتجاه الذي اصطلح على تسميته بالأسلمة. وهذا الاتجاه يعني تطويع تلك الإنجازات بما يتفق مع الشريعة الإسلامية وليس رفضها. ولعل هذا ينطبق كثيراً على مجموعة من النظريات التي تعتمد على التصرف أو الفكر الإنساني وليس على المسلمات العلمية التي تحكمها قدرة الله وتكوينه لعناصرها الأساسية.
ولهذا فإن الاختيار يكون أكثر حساسية وربما إلحاحاً في القضايا الفكرية أو تلك التي تتعلق بحياة الناس وسلوكهم. هذا الواقع يبدو أكثر وضوحاً في العصور التي انحسر فيها عطاء بعض المسلمين عندما أساءوا فهم مسألة الاختيار فانعكس سوء فهمهم على أدبيات الفكر الإسلامي المختلفة ومنها ما يخص أو يمس حياة الإنسان كقضايا الاقتصاد والسياسة. الاختيار هنا أن نتعلم من السلوك السوي لدى الغير ما نغيِّر به سلوكنا السيئ في مجتمعنا الإسلامي.
الاختيار الذي نبحث عنه، أن نختار سلوكاً إنسانياً حضارياً يتفق مع التربية الإسلامية ويجنب المسلمين مزيداً من الفرقة والبُعد عن الريادة التي نستحقها ونتوق إليها. لا بأس أن نختلف، فالاختلاف طبيعة إنسانية، ولكن السلوك الإنساني السوي هو أن نقبل الاجتماع لبحث الاختلاف، لأن خلافاً واحداً لا يمكن ان يعصف بالاتفاق على أشياء أخرى.
(*) رئيس دار الدراسات الاقتصادية الرياض
|