لا يوجد عربي لا يعشق مصر، والعشق أعلى درجات الحب، ومنذ اعتنقت مصر الإسلام وهي درع العرب الواقي وقلبهم النابض، في عزها عز للعرب والمسلمين وفي انكسارها انكسار للعرب والمسلمين وظل هذا قدرها وقدرهم إلى اليوم.
وفضل مصر على البلاد العربية جميعاً بلا استثناء دينياً وتعليمياً وثقافياً وسياسياً تاريخ في سجل كل مواطن عربي لا ينكره إلا جاحد أو جاهل. وتعد مصر الآن قبلة السياحة العربية والعالمية يجد فيها كل من يسافر إليها بغيته، وقد خصها الله سبحانه وتعالى دون بلاد العالم بهذه الحقيقة {اهًبٌطٍوا مٌصًرْا فّإنَّ لّكٍم مَّا سّأّلًتٍمً}، لهذا ظلت مصر وستظل «حلم» من لم يزرها حتى يتحقق هذا الحلم، فإذا تحقق تمنى أن يتكرر. ولا يمكن أن يتوقف عن زيارة مصر من أحبها لدرجة «العشق» لأن العاشق يتعامل بصبر مع محبوبه ويحتمل الأذى لأجله، ويعتبر كل ما يلقاه في سبيله حالات شاذة ونادرة وليست من طبيعة المحبوب ولا تعبر عنه بأي حال من الأحوال.
هذه في الحقيقة نظرة كل عربي يتكرر على مصر، ويلقى من الصعوبات والأذى من الشواذ الذين لا يمثلون مصر وشعبها الكريم.
وقد زادت في السنوات الأخيرة شكاوى بعض المحبين من أجواء السياحة في مصر خاصة على القادم من السعودية والخليج، وقد كتب بعض هؤلاء في صحفهم المحلية ووصلت شكاواهم إلى وزير السياحة المصري وإلى المسؤولين المعنيين في الجوانب الأخرى ولقيت اهتماماً كبيراً، لأنهم يدركون أن من يكتب عن الجوانب السلبية وينبه إليها لا يقل حباً وغيرة على مصر عن أي مواطن مخلص من مواطنيها.
ولهذا رأيت أن يؤدي هذا المقال هذا الدور حباً لمصر وغيرة عليها، وخاصة أنني لست بغريب عنها، أهبطها مرة أو أكثر في العام وتربطني بالكثير من رجالها الأخيار والمثقفين صداقات حميمة، ولهذا الحب الكبير أحتمل كما يحتمل غيري من عشاقها أذى «الاستغلال» أو «الاستغفال» الذي يتعرض له السائح أو الزائر القادم من بلاد النفط مثل المبالغة في الأسعار وتزوير الفواتير والإلحاح الشديد في طلب «البقشيش» علماً أن هذه الفئة التي تمارس هذه الأساليب عليها أن تدرك أن مطالبها بسيطة بالنسبة للسائح القادم من بلاد النفط لكنها تخسره وتخسر كرمه بسبب إصرارها على استغفاله، لأن ذلك يحدث عنده ردة فعل عكسية، وهذه الفئة تستطيع أن تحصل بالرضا والقناعة وحسن المعاملة على أكثر مما تأخذه بأساليبها الملتوية المكشوفة. وأتصور أن الكثير من الأماكن التي يرتادها السياح بحاجة من مالكيها ومن وزارة السياحة نفسها إلى توجيه لتوعية العاملين بها بفن التعامل مع السائح الخليجي على وجه الخصوص ليكون الهدف ليس لاصطياده مرة واحدة وإنما في ضمان عودته مرات قادمة. وهذا مبدأ - للأسف - لا يعمل به الكثير من الذين يتعاملون مع السائح العربي في مصر. السائح العربي يريد أن يعطي طواعية وكرماً ولكن بالإكراه والاستغفال لن يعطي أبداً ويكون بخيلاً جداً، ومعظم السعاة في أماكن السياحة لا يفهمون هذه الحقيقة فيستبقون رزقهم ويقطعون كرم السائح على أنفسهم بالإلحاح الشديد أو بعدم إعادة المبلغ المتبقي من الفاتورة الأمر الذي يثير غضب السائح فيحرمهم مما كان يود التكرم به.
وقد سمى الكاتب المصري د. مصطفى أحمد ذلك أسوأ أنواع «الرزالة» في مقاله المنشور بجريدة الأخبار المصرية 5/8/2003م وعلق قائلاً لمعالي وزير السياحة «معقول الكلام ده يا دكتور بلتاجي ونحن نريد دخلاً محترماً من السياحة» وقد روى عجائب القصص في ذلك المقال.
وقد يحتمل ذلك كله ما دام الإنسان بخير وميسور الحال لأننا نعلم أن الكثير من أهلها الأعزاء يعانون المعاناة نفسها وخاصة إذا شمت منهم رائحة السفر إلى السعودية والخليج.
ولكن أن يمتد الاستغلال والاستغفال إلى «الخدمة الصحية» وهي جانب إنساني لا يجب العبث أو المساس به فهذه الطامة الكبرى التي دعتني لكتابة هذا المقال وتوجيهه لرعاية معالي وزيري السياحة والصحة معاً. فقد شاء الله - ولا رادّ لقضائه - أن تصاب ابنتي «طفلة ثلاث سنوات ونصف» بحريق بماء ساخن في رجليها وفخذيها وتوجهت بها فوراً لأقرب مستشفى مني وكان القصر العيني «الحكومي» وتم إسعافها في الطوارئ على أكمل وجه وبطريقة وتعاطف إنساني رائع لن أنساه.
فقد كانت الحالة يدمى لها قلب كل أب أو أم، ثم بدأت رحلة مؤلمة مع مستشفيات القطاع الخاص. توجهنا لعمل الغيار الأول في مستشفى دولي كبير ولتقييم الحالة وخطورتها استلمها جراح عن طريق معرفة وأخذ الطفلة وغاب بها ساعة تم فيها إبدال الغيار بالتخدير وطلب ألف جنيه في يده عداً ونقداً وطلبت المستشفى 600 جنيه، وقال صديق مصري معلقاً: هذا غيار فقط وليس عملية جراحية. لم أعلق وكنت وقتها مستعداً لدفع أضعاف هذا المبلغ لإراحة ابنتي.
وذهبنا إلى مستشفى آخر بالمهندسين يسمى مستشفى الأطفال بشارع الفرات، وتعلمنا الدرس فسألنا عن تقدير كلمة «الغيار» فقيل في حدود 300 جنيه، فتنفسنا الصعداء، واستلم مدير المستشفى نفسه الطفلة وأجرى لها الغيار وأعادوا لنا الطفلة تبكي بكاء مراً وتتلوى من الألم ولم تسكت لمدة ساعة أو أكثر ولم يحاول أحد تسكينها - ونحن في مستشفى أطفال - رغم أن البكاء لم يكن عادياً وطلبت أن أتحدث مع «سعادته» بالهاتف لعمل شيء لتهدئة ابنتي.
فرد علي بجلافة وغلظة وقسوة لا تتناسب مع مدير مستشفى أو طبيب في مستشفى أطفال. وعندما تيقن من هويتي أثناء المكالمة القاسية خفف حدة اسلوبه ولان قليلاً. واستلمنا الفاتورة مضاعفة ثلاث مرات 900 جنيه. وقال هذه أسعار غير المصريين، وبعد مشادة مع الصديق المصري تم تخفيض الفاتورة إلى 750 وتم إعادة تفصيل المصروفات على المبلغ بكل سهولة!!
وخرجنا من ذلك المستشفى وطفلتنا لا تزال تبكي فلم يكن فيه شيء يمت للطفولة بصلة لا قلوب أصحابه ولا تعامل من فيه ما عدا الجدران الصماء وألوانها الزاهية، وخيل إلي أن بكاء ابنتي كان احتجاجاً على ذلك المستشفى أكثر منه ألماً!
ومع الأيام اهتدينا إلى معرفة الحقيقة عن طريق بعض الأخيار من الصيادلة والأطباء وأصبح «الغيار» بالتخدير 200 جنيه على يدإخصائي واستشاري جراحة تجميل حتى أصبحنا نغير لها في البيت على يد صيدلي مخلص أقنعني بأن «الغيار» هو «الغيار» وأن مستلزماته الطبية لا تكلف أكثر من 35 جنيهاً، وأن الإكثار من التخدير يضر بالطفلة، فقلت كيف لم يرحم طفولتها هؤلاء الذين لم يمانعوا في تخديرها من أجل فتح غرفة العمليات وقبض الثمن أضعافاً مضاعفة؟!
نحن نقبل أن يكون علاجنا ضعف كلفة المصريين لا أن يكون عشرة أضعاف وأكثر من عشرة أضعاف!!
وحين عدنا إلى الرياض تم تنويم الطفلة لمدة أسبوع. وتساءل الأطباء كيف لم يطلب أحد منكم في مصر تنويمها وإخضاع جراحها وحالتها للرعاية والمتابعة بالمضادات لتخفيف آلامها؟ واكتشفنا أن بعض الجراح ليست درجة أولى كما زعم أساتذة الجراحة في مستشفيات الخمس نجوم بالقاهرة، وأن الطفلة فقدت سوائل ولم يتنبه أحد لذلك.
وسالت دموع أمها قهراً وندماً حين علمت أن أحداً في مستشفيات الخمس نجوم لم يهتم بالجانب الإنساني ولو حتى بثمن أعلى، وكل همهم أنها صيد ثمين لا بد أن يدفع أعلى ما يمكن في المرة الأولى حتى لو لم يعد مرة أخرى، وهذا ما حدث وهو نفس اسلوب تعامل أماكن السياحة المختلفة!
إن مصر مليئة بالقلوب الرحيمة، ومليئة بالأطباء الأمناء الذين يحترمون شرف المهنة، ومصر قدمت للعالم العربي خيرة رجالها في الطب والتعليم وكل الفنون والعلوم وتعطي في بلادها ولأمتها العربية أفضل خبراتها لهذا فإني على ثقة أن وزيري الصحة والسياحة المصريين سيتتبعان هذه الحالات الشاذة من الابتزاز في مجالي الصحة والسياحة، وهما يعلمان أن نقطة حبر تلوث بئراً من ماء نقي، فمن أجل مصر وحباً في مصر كتبت هذا المقال، وهو حق إن لم أقله سأشعر اني خنت هذا الحب النابض لقلب العرب النابض.
|