عندما أطل محمد سعيد الصحاف وزير الإعلام العراقي السابق على المشاهدين من على شاشة «العربية» أو «أبو ظبي» تساءل الناس وأنا منهم: هل هذا هو الصحاف أو شبيهه؟ فقد كنا نتوقع أن يعتقل الصحاف، لا أن يقول لقوات التحالف اعتقلوني، لقد حدث عكس ما توقعنا وأملنا، وإرضاء لخاطره ولرعبه الشخصي، استقبلته قوات التحالف، وأخذت منه ما تريد من المعلومات، وأعطته ما تريد من الأوامر والتوجيهات ثم قالت له: كر فأنت حر! «كما يحصل تماما في مضارب بني عبس» لكن الصحاف، إذا كان أخذ حريته وعبوديته معا، من الأوغاد العلوج، فإنه - للأسف - غير واثق من هذه الحرية، فهو لا يستطيع المبيت في بيت واحد كل يوم، ولا يستطيع التجول في الشوارع والمقاهي والمكتبات، لقياس نبض الجماهير المقاومة للعلوج والأوغاد، الذين حطوا رحالهم على رقاب الجميع، والذين أعطوا العراقيين أيضاً - ويا للعجب - حرية التظاهر، واللطم، وإصدار الصحف، وعرض أفلام البرنو، وإلبومات العزاء الحسيني، وفوق ذلك كله، إحياء ذكرى أعداء القيادة السابقة، من العهد الملكي والعهد القاسمي.. أصبح الصحاف يعتقد أن الناس الذين كان يدافع عنهم علنا في تصريحاته، هم الذين سيقتلونه لو وجدوه أمامهم في أي مكان، وسوف ينزلونه من عليائه، مثلما أنزلوا آلاف التماثيل، ومزقوا ملايين الصور، التي كانت تعرض الرئيس المهيب في شتى الصور والأوضاع، وأبرزها ما كان على الطرق: العشائرية، الإفرنجية، المكسيكية وفوقهم.. رعاة البقر!
لقد خرج الصحاف في لقاءيه الأخيرين رجلا باهتا، قليل الكلام، حذرا، مع قليل من النفخة الإعلامية إياها، لكن ما لفت الأنظار، الشيب الذي احتل رأسه، مع نحول وتجاعيد لا تخطئها العين، وكأن الرجل كان نائما بجانب حقل ألغام، انفجر فجأة ليحل بالرجل ما حل، ويخرج علينا بصورة مغايرة لما عهدناه إبان الحرب وحتى آخر تصريح له، كان يحثنا فيه على انتظار مفاجأة، وقد كانت المفاجأة اختفاؤه وخروجه بهذه الصورة.. لكن المفاجأة الأكبر، هي إن الرجل يكاد يقول في كل إجابة بأنه مجرد عبد مأمور، لم تكن له سلطة على أي مرفق من مرافق الإعلام الهتلري، لقد كانت تأتيه البيانات بقضها وقضيضها، مع وضع بعض البهارات عليها، التي صبغها بطابع فانتازي لا تخطئه العين، ما جعل الجميع يتابعون برنامجه يوميا وعلى رأسهم العلج الأكبر.. جورج بوش!
لقد كان الصحاف يخضع يوميا للعديد من المزينين بعضهم يتولى صبغ الرأس وبعضهم يتولى نتف الحواجب والبعض الآخر مهمته تدليك الوجه، ليبدو نضرا وفتيا، لقد كانوا يحذفون «15» عاما من عمر الجيل الثاني من الهجائين العرب، الجيل الذي بدأ بيونس بحري ثم أحمد سعيد، وإن كان أخفهم دما وظرفاً وسطوة هو محمد سعيد الصحاف!
وزير الإعلام العراقي السابق مثله مثل العديد من العراقيين، ما زال متوجساً خائفاً، ينتقل يومياً من بيت إلى بيت، ليس خوفاً من صدام في هذه المرة، ولكنه الخوف من الشعب الذي كان ينفخ فيه يومياً، ثم فجأة رماه من حالق واختفى.. لكن هذا الصحاف سوف يتحول لاحقاً، كما هي حال العديد من المسؤولين العرب، الذين قيض الله لهم من ينقذهم، سوف يتحول إلى محلل سياسي وراو، يسرد من خياله فقط ما كان وما سيكون، وسوف يحرص إذا خرج إلى الفضاء الخارجي على التأكيد بأنه كان عبداً.. للمأمور صدام حسين! ومن سيكون هكذا حاله لا يملك إلا الطاعة.. وهي طاعة كلفت العراق الكثير من الحرق والتدمير والجوع والعطش.. بل إن بيوت الطين التي كانت تأوي العراقيين، كانت عزيزة المنال!
سوف نرى في مقبل الأيام الكثير من شهود الزور.. وسوف نقبل شهاداتهم ونكافئهم عليها.. بينما المفروض أن يطارد مثل هولاء من عطفة إلى عطفة مثلهم مثل الكلاب.. الشاردة!
محمد سعيد الصحاف لا تحتاجه أمريكا، لأنه ليس بئر نفط أو معلومة نووية، ولكننا نحتاجه لنحاكمه بقسوة على دوره المضلل هو وجوقته العابرة للقارات، التي كانت تبث أكاذيبها بجرأة لا تحسد عليها.. لقد خرج محمد سعيد الصحاف من العراق إلى الإمارات، ليبدأ في تشكيل دوره كنجم جماهيري، بز - كما يقولون - رئيسه السابق صدام حسين، فأصبح يتقاضى الملايين نظير تصريح أو مقابلة، بل إن هناك من يفاوضه - باعتباره نجماً كوميدياً - على إنتاج سيرته الذاتية، أما المواطنون العرب والأجانب، الذين استمتعوا كثيراً ببيانات الصحاف، فقد أصبح بإمكانهم أن يشتروا كتباً وألعاباً متعددة محورها الصحاف، وآخر الوسائل التي تكرس من الصحاف كنجم: شطيرة الصحاف!، التي بدأ يتناولها الشباب في شوارع ومقاهي البحرين!
|