تخيَّرتُ جهدي لو وجدتُ خيارا
وطرتُ بعزمي لو وجدت مطارا
|
أما القائل فالشاعر المعري..، وأما البيت فمتخم بالمفردات المعاصرة والأماني الحديثة: ففيه جهد منوط بخيار، وطيران مشروط بمطار.. والسؤال هو: ما هي يا ترى العلاقة بين الجهد والخيار والطيران والمطار؟!
أن العلاقة تبدو هنا (نفسية) أولاً وأخيراً، فليس هناك من جهد بدون خيار وما ذلك إلا لأنه حين يعدم الخيار تنتفي حوافز بذل أي جهد، مثلما أنه حين ينتفي المطار يضحي الطيران في عداد المحال. فالمعري يبدو من خلال بيته هذا وهو يمر بحالة من (التداعي الحر:Free Association) يفصح لنا فيها (اللاشعور) لديه عن كوامن خيبة أمانيه، ويقدم لنا في الوقت نفسه اعتذاره عن عدم قدرته على بذل ما يشرف من جهد لا عن عجز أصيل لديه بل بالأحرى لانتفاء الخيارات بين يديه، إنه يهمس لنا مؤكداً بأن ليس لقدراته حدود إلى الدرجة التي سيروم فيها الطيران فيما لو توفر له المطار..، فهو هنا يحفر بالأماني أنفاقاً ويسبر بالتحسر آفاقاً.. إنه إنسان متكدس على ذاته.. متحسر على قدراته المقيدة بظروفه الأرضية، فلا غرو أن يتجسد لنا تشوقه للطيران بعيداً فراراً عن واقعه غير أنه لو فعلها - أقصد الطيران - فحتماً أنه سيجد نفسه قد هرب من مجهول إلى مجهول.. من مجهول الأرض إلى مجاهل الفضاءات المجهولة الخالية هي أيضاً من الخيارات.
إن المعري لم يصل إلى ما توصل إليه إلا بعد حياة حافلة بالتجاربب من ضمنها على وجه الخصوص تجربتان مضنيتان، في أولاهما غرق في مستنقع الجهل ليخرج منها عبرالتجربة اللاحقة من أتون الجهل إلى آفاق الحلم والوقار، استدلالا بقوله في بيته الآخر:
جهلتُ فلما لم أرَ الجهلَ مغنياً
حلمتُ فأوسعتُ الزمانُ وقارا
|
فهل كان جهله في الأولى وحلمه إلى حد الوقار في الأخرى.. عن خيار أيضاً؟!
وبغض النظر عن حيثيات الكناية وضرورات المجاز.. فالمعري لم يكن كما في البيتين المستعرضين سوى إنسان... إنه بالأحرى - كلهم - يتحدث عنهم.. فما هو يا ترى موقفه فيما لو عاش في عصرنا هذا المتخم بالمطارات والمكتظ بالطائرات...؟ حسناً لو فعل ذلك (فبالنيابة!) عنه أكاد أجزم بالقول إنه لا شيء سيتغير في كيانه. ستظل فكرته هي فكرته وحسرته هي هي حسرته.. أما السبب فذاته السبب الأزلي.. انتفاء الخيارات رغم أنف حقيقة توفرالمطارات..!
|