تأتي زيارة سمو ولي العهد -حفظه الله لروسيا لتسجل مرحلة جديدة في السياسة الخارجية السعودية، وتستقطب اهتمام وانتباه المحللين والخبراء والإعلاميين لما تمثله من أهمية إستراتيجية في هذه المرحلة التي تشهد تحولات ومشكلات دولية وإقليمية، فالملف السياسي، والملف الاقتصادي، والملف الأمني، وغيرها كثير سوف تحفل به هذه الزيارة، فجاءت تطلعات وتوقعات الخبراء والمختصين بنتائج كبيرة على المستويات السياسية والاقتصادية دولياً وإقليمياً، وكذلك مما يتصل بالمصالح السعودية والروسية لتعكس جانباً جديداً من الشراكة الثنائية.
وإدراكاً من (الجزيرة) لأهمية هذه الزيارة قامت بجملة من الأعمال الإعلامية المتخصصة بهدف استقصاء جوانب الزيارة والظروف المحيطة بها وعوامل نجاحها وتحقيق أهدافها.
ومن هنا جاء هذا الحوار مع د.ماجد التركي، لنقف مع الجزيرة حول نقاط لم تطرح بشأن الزيارة، وتحتاج لمزيد تناول، ولا سيما أن لدى ضيفنا الكثير من الأبحاث والدراسات والإصدارات في هذا المجال، وخلاصة ما طرحه أن العوامل الإيجابية والمشتركة بين البلدين أكثر من العوامل المؤثرة سلباً في علاقات البلدين، وأن البلدين بانتظار علاقات مستقبلية واعدة بناء على الرغبة الجادة بين البلدين لتحقيق ذلك.
* (الجزيرة): دكتور ماجد، اليوم الثلاثاء 2 سبتمبر، تبدأ الزيارة الرسمية الأولى لسمو ولي العهد لروسيا، فما الذي تعنيه هذه الزيارة؟ وماذا يمكن أن يقال بشأنها؟
نعم تبدأ اليوم زيارة سمو ولي العهد، ومعها تبدأ مرحلة جديدة ليس فقط في العلاقات السعودية الروسية، بل في مجال السياسة الخارجية السعودية، وهذه الزيارة انطلاقة استراتيجية جديدة للمملكة على مسار علاقاتها الدولية.
وهذه الزيارة تعني كل شيء (سياسياً واقتصادياً وأمنياً)، ومن خلال متابعتي للإعلام بوجه عام فقد قيل الكثير عن الزيارة، قيل إنها تاريخية، وتحول استراتيجي، ونقلة نوعية في العلاقات السعودية، إلى غير ذلك وهذه حقيقة يستساغ تكرارها كثيراً مدة الزيارة، فالزيارة تسعى لفتح المجال واسعاً بين البلدين، وتهدف لوضع أرضية مشتركة للتعاون الثنائي، بمعنى التحول من مرحلة المفاهمة إلى التشاور في المجال السياسي، ومن التعاون إلى المشاركة اقتصادياً.
* (الجزيرة): يقابل التفاؤل بنتائج الزيارة تساؤل عن توقيت الزيارة في ظل الحالة الدولية الساخنة، وهل الأوضاع المحيطة تساعد على نجاح الزيارة وتحقيق أهدافها؟
التفاؤل ليس مجرد (مشروع) بل واجب في ظل المعطيات المشاهدة، فممهدات نجاح الزيارة كثيرة يمكن التطرق إليها ولكن يحسن التأكيد على أن الخطوات الجريئة لا تأتي إلا في المواقف الصعبة، صحيح أن الحالة الإقليمية والدولية ساخنة وساخنة جداً، وهذا برأيي مما يؤكد على أهمية الزيارة كخطوة في المشاركة السياسية بين عاملين فاعلين في السلام والأمن الدليين، فالمملكة بوزنها في الساحة الإسلامية والعربية، وروسيا بثقلها الدولي تشكلان ثنائياً هاما في معالجة الأزمات الراهنة وخاصة عراقياً وفلسطينياً .
أعود لأؤكد إن ممهدات نجاح الزيارة كثيرة وأبرزها عاملان أساسيان:
الأول: وجود رغبة سعودية وروسية مشتركة لتفعيل العلاقات الثنائية، وهذه الرغبة مبنية على الإدراك الواعي بأهمية البلدين تجاه بعضهما، وأن لديها مصالح مشتركة سياسية واقتصادية.
الآخر: عدم استعجال البلدين في خطواتهما تجاه البعض، فأخذ القرار الوقت الكافي جداً للوعي به وانضاجه، وأنا أختلف مع الكثير ممن يقول إن هذه الخطوة جاءت متأخرة، فهي لم تتأخر حيث سبقتها خطوات على الصعيد الدبلوماسي لوزارتي خارجيتي البلدين وكان بيان البلدين على هذا المستوى زيارات متبادلة كثيرة، إضافة إلى العمل المتواصل للجنة السعودية الروسية المشتركة.
ويمكن ان يكون التأخر في حسم المرحلة أما الخطوات الأولية فهي قائمة ومستمرة منذ سنوات، وكنت ألحظ ذلك بحكم علاقتي بالمنطقة متابعتي لشؤونها، وقد كتبت كثيراً في هذا الاتجاه سواء للمسؤولين، أو على المستوى الإعلامي، وكنت أرصد تفاعل الساحة الروسية، وجاء ذلك في دراسة خاصة عن المملكة في الرأي العام والإعلام الروسي.
* (الجزيرة): هذه المعطيات والممهدات التي أشرت إليها تعطي مؤشرات أولية لنجاح واسع لبرنامج الزيارة، فما هي أبرز النتائج المتوقعة؟
النتائج المتوقعة ليست كثيرة فقط، بل ومتنوعة بحسب المجالات المشتركة بين البلدين من جانب، ومن جانب آخر تتعلق بمعالجة المشكلات العالقة التي كانت من أسباب عدم تطور علاقات البلدين.
فعلى الصعيد السياسي يمكن أن تسفر الزيارة عن انحسار في مساحة اختلاف الرؤى الخاصة تجاه بعض القضايا الدولية والمشكلات الأقليمية حيث سيكون محور التفاهم المستمر بين البلدين قائماً يسبق أي رأي تجاه تلك القضايا، بمعنى أنه سيكون في الساحة الدولية خطاب سياسي جديد ومؤثر.
أما على الصعيد الاقتصادي والتجاري فهناك جانبان:
الأول: العمل على زيادة حجم التبادل التجاري بين البلدين، والعمل على إزالة القيود أو المعوقات السابقة، من خلال إبرام اتفاقيات تجارية تحقق ذلك.
الثاني: الجانب النفطي واستثمارات صناعة الغاز بالعمل على وجود مراعاة لمصالح الطرفين في القرارات النفطية، ولعل أبرز ملحظ هنا العمل على تقريب روسيا (كثاني أكبر منتج عالمياً بعد المملكة) من منظمة أوبك، بحيث يكون بين البلدين تنسيق نفطي يسهم في استقرار سوق النفط العالمي، وقد نشهد يوماً ما انضمام روسيا للمنظمة.
وسوف تمتد نتائج الزيارة لتمس بعض الشؤون الداخلية وخاصة في روسيا، حيث ستسهم في تصحيح المفاهيم الإعلامية المغلوطة تجاه المملكة حيث سيكون هناك توصل يكسر الجمود، ويزيد من معرفة وتفاهم شعب البلدين تجاه بعضهما، فروسيا بلد حضارة وثقافة وسياحة سوف تستقطب مختلف شرائح المجتمع السعودي.
* (الجزيرة): تناول الكتَّاب والمحللون الجوانب السياسية والاقتصادية ذات الصلة بالزيارة، فهل توجد عوامل أو عناصر مشتركة بين البلدين غير ذلك؟
طبعاً يوجد الكثير من العوامل المشتركة بين البلدين، وكثرة هذه العوامل وجديتها هي التي دفعت بمسيرة العلاقات إلى هذه المرحلة الهامة، والجانبان السياسي والاقتصادي مؤثران وأساسيان، ولكن يوجد جانب آخر رئيسي وهو الجانب الأمني لكل الطرفين، فالمملكة وروسيا تعانيان من الإرهاب الدولي، وهما دولتان مستهدفتان في الوقت الراهن، ويوجد بينهما تشابه في الظروف الأمنية باعتبار أن مشكلة الإرهاب لديهما داخلية، فالبلدان معنيان بمحاربة الإرهاب، ولدى كل منهما برنامجه الخاص في هذا المجال، واعتقد أن التعاون بين البلدين في هذا الاتجاه سيكون من أولويات الزيارة وقد نتج عنه إبرام اتفاقات أمنية، أو تكون هذه الزيارة ممهدة لمثل هذا الإجراء، وقد استطاعت المملكة وروسيا من خلال لجان رسمية رفيعة المستوى مناقشة الكثير من المشكلات الأمنية وخاصة فيما يتصل بالاتهامات الإعلامية من الجانب الروسي لبعض المؤسسات السعودية وأظن أنه قد تم تجاوز ذلك لمراحل متقدمة من التفاهم والتعاون.
* (الجزيرة): أين مكان العامل الإسلامي في العلاقات السعودية الروسية، وخاصة أنه يوجد في روسيا حوالي عشرين مليون مسلم؟
بكل تأكيد فالعامل الإسلامي مؤثر في علاقات البلدين، ولكن لم يكن على الدوام إيجابياً. بل أثر سلباً في بعض المراحل، وهذا جانب هام الوهي به والإحاطة بجوانبه، ولكن يحسن أن يسبق هذا الإشارة إلى عمق الإسلام في روسيا وتأثيره في الساحة الروسية ذاتها، فالمسلمون عشرون مليون مسلم من ابناء القوميات الروسية، وهذا الرقم كان مختلفاً عليه طوال العقد الماضي حتى أعلن عنه الرئيس فلاديمير بوتين قبل أسابيع في زيارته لماليزيا، وإعلانه عن سعي روسيا للانضمام كعضو في منظمة المؤتمر الإسلامي، وليس بصفتها مراقب حسب وضعها الحالي، كما أن الإسلام هو الديانة الثانية بعد المسيحية في روسيا، ويوجد بها أكثر من (5000) مسجد، وتعد موسكو أكبر عاصمة أوروبية باعتبار عدد المسلمين الذي يقارب المليون، والمسلمون من القوميات الروسية أعضاء في مختلف أجهزة الحكومة الروسية، ولديهم جمهوريات إسلامية ذات حكم ذاتي ضمن فدرالية روسيا ومن أبرزها (تتارستان وبشكيريا وداغستان)، والمسلمون لا يتركزون في مناطق معينة خاصة بهم، بل لهم انتشار في كافة جغرافية روسيا، هذه كلها عناصر هامة تبرز أهمية العامل الإسلامي في روسيا ذاتها، وبالتالي فهو عامل مؤثر في علاقاتها الخارجية وخاصة مع دولة مثل المملكة العربية السعودية، التي بها الحرمان الشريفان ومهوى أفئدة المسلمين، وبها أكبر مجمع على الاطلاق لطباعة المصحف الشريف، فهي بالنسبة للمسلمين راعية شؤونهم ومهتمة بمصالحهم وحاجاتهم، وقد أعلن رئيس مجلس المفتين الشخصية الدينية الأولى في روسيا أن مسلمي روسيا وجمهورياتها الإسلامية يتطلعون إلى إقامة علاقات متينة مع المملكة، ويعولون على ذلك الكثير.
فالعامل الإسلامي عنصر مهم يحسن توظيفه لتطوير علاقات البلدين، والتواصل الجاد مع مسلمي المنطقة مع الوعي بظرفهم الداخلي، وتاريخ الإسلام في المنطقة واتجاهاته، وأن تتركز الجهود على أن يكون عناصر فاعلة في مجتمعهم، وجزءاً رئيسياً في الكيان الروسي.
* (الجزيرة): دعنا ننتقل بالحديث إلى جانب آخر في علاقات البلدين، وما هي المؤثرات السلبية التي قد تشوش على علاقات البلدين حالياً أو مستقبلياً؟
هذه حقيقة يجب التعامل معها، فليست الأمور إيجابية بشكل دائم، ولو لم توجد السلبيات لما وجدت الجهود الجادة لتلافيها، ولأصبحت علاقات الدول طبيعية.
ولكن فيما يتصل بالعلاقات السعودية الروسية ففي تقديري أن العوامل الإيجابية أكثر من السلبية، أو بعبارة أدق أكثر فاعلية وتأثيراً، ومن جانب آخر أن البلدين تجاوزا في المراحل التمهيدية لهذه العلاقات الكثير من المعوقات لمسيرة علاقات البلدين سواء سياسياً أو اقتصادياً أو أمنياً، وطوال عقد زمني كامل في علاقات البلدين تم حل الكثير من المشكلات، وأصبح التفاهم بشأنها هو القائم الآن، وتم تجاوز تلك المرحلة وهذا لا يعني أيضاً أن جميع المشاكل تم حلها، أو أنه لن تظهر في الساحة معوقات أو مشكلات جديدة، ولكن تم وضع الأرضية المناسبة لعلاقات متفاهمة ومتفاعلة بين البلدين، وما ينتظر في هذه الزيارة من توقيع اتفاقيات في مجالات مختلفة سيمهد مستقبلاً واعداً ونشطاً في علاقات البلدين، وسيأتي دور المؤسسات التنفيذية في البلدين لتحويل ذلك إلى واقع، وسيكون للإعلام بكافة أشكاله دور رئيسي، إضافة إلى الدور المرتقب لرجال الأعمال، فالطموح الآن ليس في مجرد بدء هذه المرحلة من العلاقات فحسب، بل العمل على استمرارها وتطويرها وتوسيع مجالاتها، وزيادة مساحة التفاهم والتعاون والمشاركة.
* (الجزيرة): تحدثت دكتور ماجد عن دور إعلامي منتظر في مسيرة العلاقات، فما هو في تقديرك؟
لعلي أدرك أنك لا تسأل عن الدور الوظيفي العام للإعلام، بل عن خصوصية الدور في هذه المرحلة، لذا أرى أن يكون الدور المستقبلي للإعلام ينطلق من الوعي بمصلحة البلدين المشتركة، والعمل على خلق الأجواء الإعلامية الصحية لتطوير العلاقات، بمعنى التركيز على إبراز الجوانب الإيجابية والتأكيد عليها، والسعي إلى منافسة المشكلات بموضوعية وتأنٍ.
وبالنسبة للإعلام السعودي فالمهم في تقديري أن يستمد مضامين رسالته الإعلامية من مصادر ذاتية خاصة به، ووطنية قدر الإمكان، وأن يتجاوز مرحلة الاعتماد في استقاء الأخبار أو التقارير من المصادر الدولية التي تنطلق من مصالحها الاستراتيجية ولو على حساب تغييب مصالح الآخرين.
فعندما تنطلق الرسالة الإعلامية من مصلحة وطنية فإنها بلاشك سوف تسعى لخلق أجواء التفاهم أكثر من غيرها.
* (الجزيرة): د. ماجد: كيف تقرأ مستقبل العلاقات السعودية الروسية؟
بكل بساطة هو مستقبل واعد، وهذا ليس جنوحاً في التفاؤل بل الشواهد الواقعية تؤكد ذلك، سواء من الجانب السعودي أو الروسي، وأعتقد أن الأوضاع الدولية الراهنة رغم سخونتها سوف تسهم إيجابياً في هذا الاتجاه من منطلق إدراك الدولتين لأهمية تعاونهما.
وأعتقد أن ردة الفعل العملية لزيارة ولي العهد سوف تحدد بشكل كبير مستقبل هذه العلاقات، فعملياً ماذا سيعمل الطرفان لتحقيق ذلك، وهذا يحتاج إلى انتظار ومراقبة وترقب، وعلى المستوى الشخصي فأنا من خلال (مركز الإعلام والدراسات العربية والروسية) في موسكو أقوم بمتابعة التفاعل الإعلامي والثقافي في الساحة الروسية تجاه المملكة، وسيكون للمركز عمل جاد بعد الزيارة لرصد النتائج ومحاولة الإسهام العلمي والإعلامي في هذا المجال، فنحن في المملكة في حاجة إلى الكثير من الدراسات عن روسيا ذاتها، وعن الصورة الذهنية للمملكة وتطوراتها في الرأي العام الروسي، وأذكر هنا كلمة لصاحب السمو الملكي الأمير تركي الفيصل في زيارة سابقة لموسكو (أكتوبر 2002م) حيث قال: اكتشفت في زيارتي أن الروس يعلمون الكثير جداً عنا في المملكة، في حين أننا لا نعلم إلا القليل عن الشأن الروسي.
وهذا برأيي ما يفسر سر الاهتمام الروسي المتزايد بنا في المملكة، ورغبتهم الجادة في بناء العلاقات وتطورها وقد ذكر لي السفير الروسي السابق في الرياض (د.ايجور ميلحوف) جانباً من هذا الاهتمام، وإشارته إلى وعد من سمو ولي العهد الأمير عبدالله، بأن تكون زيارته الأولى للمنطقة إلى روسيا، تقديراً من سموه بأهميتها، وقد وفى سموه بوعده.
وبهذه المناسبة أيضاً فأنا أقرأ في مستقبل العلاقات بين البلدين، شخصية الأمير عبدالله الجادة والحازمة في تحقيق ما يصبو إليه من قناعات ذات مصلحة وطنية وشواهد ذلك كثيرة في الميدان السياسي السعودي الخارجي وأصبح ذلك سمة تميز شخصية سموه.
* (الجزيرة): كلمة ختامية:
أشكر جريدة الجزيرة على اهتمامها العلمي الجاد بهذه الزيارة وإعطائها العناية التي تليق بمقامها، وظهر ذلك واضحاً في الملحق الصحفي الذي صدر مع عدد يوم أمس الاثنين، والذي أبرز الجوانب الحضارية السعودية، وقدم الحياة الروسية بكل أطيافها للمثقف السعودي، ولا شك أن ذلك يسهم في زيادة الوعي بأهمية الزيارة.
وفي الختام أجدد الاشارة إلى أهمية القيام بدراسات علمية جادة عن الساحة الروسية (سياسياً وثقافياً ودينياً واقتصادياً) لزيادة معرفتنا، وسيكون (لمركز الإعلام والدراسات العربية والروسية) برنامج واسع بعد الزيارة للعمل بلغات متخصصة من واقع الساحة الروسية، إسهاماً في تفعيل هذه العلاقات.
|