Tuesday 2nd september,2003 11296العدد الثلاثاء 5 ,رجب 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

عواقب الظلم عواقب الظلم
د. موسى بن عيسى العويس

داء، من أدواء كثيرة مستشرية، لكنه من أشدها فتكاً، وأعظمها خطراً، وأقساها وقعاً، إذا أوجد له الجو الحر، والمناخ الملائم، شخّصه «محمود سامي البارودي» بقوله:


وأقتل داءٍ أن ترى العين ظالماً
يسيء، ويتلى في المحامد ذكرهُ
إذا المرء لم يدفع يد الجور إن سطت
عليه، فلا يأسف إذا ضاع مجدهُ
يرى الضيم يغشاه فيلتذّ وقعه
كذي جربٍ يلتذ بالحك جلدهُ
أبى الدهر إلا أن يسود وضيعه
ويملك أعناق المطامع وغده
وما أنا بالمغلوب دون مرامه
ولكنه قد يخذل المرء جهدُهُ.

والأحداث في العراق - على مرارتها، وقسوتها على النفس، وثقل وطأتها على المشاعر - توحي للكاتب الكثير من الموضوعات، وتفتح له العديد من الآفاق، وتبعث فيه روح التجاوب والتواصل مع ماضيه وحاضره، وقد تكون رموز النضال والكفاح في تاريخنا العربي مورداً تُنهل منه التجارب، وتستسقى منه المواعظ.
و«البارودي»، من أشخاص قلائل، عاش - رغم قسوة وقائع حياته - شريف المطلب، نبيل الخلق، أبي النفس، رقيق المعاشرة، صادق الوطنية، عالي الهمة، شجاعاً مخلصاً لأمته، غيوراً عليها، وعلى قيمها. منافحاً - في الوقت نفسه - عن بلاده، محافظاً على معطياتها. لقد وصف الحياة وصف من تمرّس بها، وأبلى في سبيلها أحسن البلاء، فعرف دقائقها، وشعر بأخطارها، وأشعر بها الآخرين، ودعاهم إلى التكاتف في وجه البغاة، وتضييق المنافذ عليهم بكل الوسائل والسبل. هذا الشعور هو سر إعجاب القارئ بشخصية «البارودي» المتفردة، التي تضافرت على بنائها عوامل من اليأس والعناء، والاشتياق والغربة والتبرم من الظلم، ليس هدفاً بذاته، أو مما يدعو للقلق، إذ إنه في نظر البعض جزء من تشكيل ثقافة العرب الجاهلية، الذي تعده شيمة من شيم النفس، وضرورة يلجأ إليها الإنسان كوسيلة دفاع أحياناً أمام الخصوم، على نحوٍ من قول الشاعر:


ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدّم
ومن لا يظلم الناس يظلم

وقول الآخر:


والظلم من شيم النفوس
فإن تجد ذا عفة، فلعلة لا يظلم

وانطلاقاً من رؤية غير متزنة كهذه، فإن المجتمع الإنساني في نظري هو الذي يصنع الظلم، ويقيم دولته، ويهيئ له أرضاً خصبة يترعرع فيها، ومساحة ممتدة يعيث بأرجائها. وإذا كنا غير قادرين على دفع المظالم، والوقوف في وجه أصحابها، فجدير بنا على أقل تقدير تجنب المداهنة والمواربة، وإبراز القبيح في صورة الحسن، والدنيء بثوب الشريف، حتى لا نبتز القيم السامية، ونستثير أصحاب المبادئ النبيلة، ومن الثابت أن الظالم للآخرين ظالم لنفسه في المقام الأول، إذ إنه بتجاوزه على الناس، ومصادرته حرياتهم وحقوقهم، ينحرف بذاته عما لا يليق بها من سائر المثالب، ويحملها من الآثام ما لا يستطيع الإنسان تحمله. والأنكى من ذلك كله، حين يقع الظلم على من أسدى لك معروفاً، ونعمت في مؤازرته لك على الشدائد، وكما قال «المتنبي»:


وأظلم أهل الظلم من بات حاسداً
لمن بات في نعمائه يتقلبُ
وكنتَ له ليث العرين لشبله
وما لك إلا الهندواني مخلبُ

لا يُنكر أن الظلم فساد في الأخلاق، وهدم للقيم، ومتى فسدت الأخلاق وانهارت القيم في أمة نامت تلك الأمة عن حقوقها، وفسدت حكومتها، واختل نظامها، وساءت أحوالها، وخربت ديارها، فحق لأمة ناشطة أن تتولاها وتستعمرها، وتحيِّد سيادتها، لأن المجتمعات لا يسوسها الجهل، ولا يقومها الاستبداد المبني على الظلم، وكم من الأنظمة والممالك التي سادت على غير العدل والإنصاف فكان مصيرها ما نراه اليوم في بعض الدول التي سقطت من حولنا، والسبب في تقديري هو استمراء مجتمعاتها الظلم، وإكبارها في أعمال السادة، وقد فات هؤلاء أن المرء لم يخلق ليقاد أو يسير، بل عليه تنبيه الظالم، وإرشاد الغافل، وهداية الضال.
وأكثر ما يخشى على المجتمعات، ويقوض أركان دولها نفاقها الاجتماعي مع دولة الظلم، والأنظمة الباغية، وقوى الشر. هذا النفاق الذي تتعدد صوره، وتختلف أساليبه في عالمنا المعاصر، من شأنه جرّ هذه الأنظمة بمداهنتها ومصارحتها، وتلبيس الحق بالباطل عليها إلى أنفاق مظلمة، ومصائر مجهولة، وعواقب وخيمة، لكن لكل قومٍ حكمة، ولكل زمان سياسة.
ليس من شكٍ أن الخوف إذا استعمر قلب الإنسان أطفأ وهجه، وخدر حسه وشعوره، وأقعده عن قوة الإرادة، وطبعه على المجاملة والمصانعة والاستسلام، والإغضاء عن الضيم، والتزلف لذوي السيادة، وغيب عنه الجرأة على التصريح بالمقاصد والغايات، ومتى تجاهل المرء صغائر الأمور لم يستطع صيانة كبائرها، أما الأبواق الإعلامية التي سوّقت وسوّغت سياسة التعسف، والقتل، والتشريد، ودقت لها الطبول، فهي لن تشفي الأمة المكلومة من أمراضها، ولم تعلّم الإنسان شرف النفس والمروءة، فحريٌّ بمجتمعات عظمت أخلاقها، وكبرت مقاصدها، وبعدت همتها، وصحت عزائمها محاربة هذا الداء مع النفس أولاً، ومن الآخرين ثانياً.
الإدارة العامة للتربية والتعليم بمنطقة الرياض

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved