عندما بادر «نادي القصيم الادبي»، ونفذ على هامش «مؤتمر رؤساء الاندية السابع عشر» الذي استضافه ندوة عن «الرواية بوصفها الأكثر حضوراً»، ووجهت تلك المبادرة بطائفة من المتحفظين والساخرين، دونما اي مبرر، ولما لم نكن مكترثين من مثل هذا الكلام المجاني وغير المسؤول، فقد مضينا في سبيلنا، تاركين الرد للمشاركين في الندوة من ادباء ونقاد و«اكاديميين» وإن كنا غير متفائلين من استجابة المتحاملين وقبولهم للبراهين، واذ نفذت الندوة، وطبعت اعمالها، فانه لم يمتعض مثيرو اللغط، ولم يراجعوا انفسهم، لأن تصدياتهم جاءت للتخذيل والاحباط، ولم تكن نشداناً للحق، وعتبنا ان كنا من المعتبين على النقاد المتمكنين، الذين سايروا مثل هؤلاء، او صمتوا إيثاراً للسلامة، والحق أحق ان يتبع، واذ لم يكن من الكياسة ترك الامور يحكم بها الذين لا يعلمون، كان لابد من تعليم الجاهلين، وتنبيه الغافلين، ممن لم يدركوا مبلغهم من الفن السردي خاصة، وممن لم يعرفوا نصيبهم من مواهبه، والمشهد اي مشهد بحاجة الى سرات يضبطون ايقاعه، ويأخذون على ايدي مهتاجيه، والمتابع لفيوض الكتابات السردية، وما يكتنفها من تنظير او تطبيق نقديين، يدرك ان هناك فوضى مستحكمة ومغالطات مخلة، وانه من الضروري مواجهة الواقع، وان كان مراً، دون النظر الى من قال: ما ترك قول الحق لي صديقاً، فمن آتاه الله المال طالبه بالزكاة والصدقة والتمتع، ومن شرفه الله بالعلم ألزمه كلمة الحق والصدق والتقوى، والذين يدَّعون الإبداع وليسوا بمبدعين، والمواطئون لهم من ادعياء النقد، لاتقتصر اساءتهم على انفسهم، وإنما يصيبون المشهد، ويدينون المرحلة، ويزاحمون المبدعين الموهوبين والنقاد المتمكنين.
ومن المسلمات التي يجب الا تغيب عن كل مشتغل بالسرديات ان الفن انواع: قول وفعل، شكل وصوت، آلية ومادة، طرائق اداء وشروط فعل، ضوابط فنية ودلالية، حرية وانضباط، مواصفات مستقاة من النماذج الاولى، التي هدي اليها المبدع الاول بفطرته، لا بتعلمه، والتي جعلت الشعر شعراً، والسرد سرداً، وفرقت بين المثل والحكمة والخطبة، دونما تدخل مسبق، او توجيه واع، والفن موهبة قبل كل شيء، لا يؤتاه اي مندفع لجوج، ولا ينتزعه من مستحقه اي ناقد لدود، وحين نقول بذلك، فإنما نريد التفريق بين المهنة المكتسبة، والموهبة الملهمة، ومع هذا فقد يمارس المقتدر غير الموهوب اي نوع من انواع الفنون، فيكون اداؤه كالصناعة التقليدية، تخدع النظر، ولكنها لا تفوت على الخبير، وقد يتسرع الموهوب رصد التجربة قبل النضوج، فيجد من ينسيه قدره، فيتوقف حيث ابتدأ، وقد فعلها غير ناقد، والموهبة الملهمة بإذن ربها، لاتضطلع وحدها بعملية الابداع، ولا بتألقه.
وحين نقول: إن الفن ابداع، والابداع وليد موهبة، فإننا نستحضر روافدها المتمثلة ب«الثقافة، والدربة، والموقف، والحرية المنضبطة، ونضوج الفكرة، والاجواء الملائمة، ومتى تخلف شيء من تلك العناصر، انعكس اثرها على الابداع، وقد يؤدي ذلك الى تعثر المبدع، وفتح ثغرات عليه، قد تصل بالنقاد الى نفي الشاعرية او السردية عنه.
ف«المتنبي» مثلاً مبدع، موهوب، عميق الثقافة، وله مواقفه الضاغطة، التي فجرت شاعريته، ولكن رديء شعره ينازع جيده، وحين نتفق على ذلك، نتساءل: لماذا أنتج شعراً رديئاً، وآخر في غاية الجودة والإبهار؟ أليس ذلك دليل تخلف عنصر من عناصر العملية الابداعية؟ قد يكون افتعال الموقف سبباً من اسباب الإخفاق، نجد ذلك في مدائحه ل«كافور» اذ لم يكن مثله الأعلى، ولم يكن مقتنعاً بما يقوله فيه، كان مثله الأعلى «سيف الدولة»، ولكن الاجواء لم تكن ملائمة له، ومن ثم خرج مغاضباً، وقال قولته التي اصبحت مثلاً، وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها:
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا
ألا تفارقهم فالراحلون هم
قيل عن «المتنبي» وعن سيرورة شعره «إنه يجمجم عما في نفوس الناس» والحق ان «المتنبي» إنسان له تجاربه، التي نسلت منها قصائده، وكل شعر يرتبط بتجربة انسانية، يكتب له الخلود والسيرورة، والاعمال السردية قد تتوفر لها التجارب الحية، فتكون بهذا أكثر سيرورة، وبخاصة ان كثيراً من الاعمال الروائية تمثل سيراً ذاتية، وأبطالها في الغالب كتابها.
وما يقال بحق الابداع الشعري، يقال مثله عن الابداع السردي، ومتى تيسر الوقوف على فنية الابداع الشعري، صعب الوقوف على فنية الابداع السردي، لوضوح معالم الشعر، وخفاء معالم السرد، وان حدد النقاد طائفة من الفنيات بالقول عن اركان الفن الروائي ومحققاته، من: حدث، وحبكة، وشخصيات، وزمان، ومكان، وحركة، وعقدة، وتأزيم، وحكاية، وحوار، وسياق، ومناجاة، ونص، وتيار وعي، وتبئير، وغيرها، ليضعوا الضوابط والسمات والفوارق التي لم يستبطنها المتعمِّلون، وخلوصاً من تلك الاشكالية، اصبحت اللغة محكاً رئيساً، وهو مالم يتوفر عليه الادعياء، الذين يؤذون حراس الفن والفضيلة.
وفي ظل الخلط والجهل جاء الحديث عن «الشعرية» و«الادبية» شعرية اللغة الشعرية، وأدبية اللغة السردية، ومثلما حاول النقاد تحديد مفهوم «الشعرية» حاول آخرون تحديد مفهوم «الأدبية»، والسرديون الذين لايحترمون اركان الفن السردي وشروطه، ولا يسيطرون على اللغة الشاعرة بطبيعتها، بحيث لايتوفرون على ثراء لغوي، ولا على تجويد لنظامها المتمثل بالنحو والصرف، ولا يمرون بموقف ضاغط، ولا يتناولون قضية مهمة، ثم يقترفون ما هم مقترفون من كلام متسطح هابط، يشي بالجهل والضعف، هؤلاء حين يتخلصون مما في بطونهم من غثاء وعناء، ينحون باللائمة على النقاد الذين يجتنبون كثيراً من آثامهم، وكان الجدير بهم ان يعرفوا ماهم عليه من ضعف، وماهم فيه من بؤس، ليكفوا عن ملاحاة النقاد، ومؤاخذتهم على ما يتصورونه تقصيراً في حق مايسمونه ابداعاً سردياً، وما هو الا لغو ممل، وكلام رديء مخل، ذلك انه لايشتمل على اي صفة إبداعية، ولا على اي ميزة لغوية، ولا عبرة بالمبدعين حقاً، ممن استكملوا العدة والعتاد، ولما يزالوا واعدين، وهم الذين تدل محاولاتهم على موهبة وموقف واقتدار، ولكنها مغمورة بغثائيات تعلو كما القتام، حاجبة الرؤية السليمة، ومثل هذا الكلام، لايعد من الادب في شيء، وان سماه ذووه والمواطئون لهم قصة او رواية ذلك ان الابداع القولي يختلف عن سائر الاقاويل، ومن تصور ان مجرد الكلام ابداع، فقد اضاع جهده، وامتدت جنايته الى جهد الآخرين ليضيعه، ومثلما ان المشهد الابداعي مليء بالادعياء المتعملقين فإن المشهد النقدي مليء بالمتقولين المغررين، الذين لايتقنون مهمات الناقد، ولا يتوفرون على ثقافته، ولا يحسنون تذوق الفنون، ومع ذلك يكرسون الوهم، ويصفون القول العادي بالابداع، وليس باستطاعة المقتدرين الناصحين الذين يبخعون انفسهم على آثار المنحرفين عن جادة الفن ان يواجهوا المشهد بنقاده المجاملين وكتابه المقوين، ويكفي مثل هؤلاء نكالاً، ان من خدع بهم، ثم اقترب منهم، ترحل عنهم، كما التائب النادم العازم على عدم العودة..
ومما فات اولئك وخسروا بفواته الشيء الكثير، ان النص الابداعي القولي معتمده على اللغة الادبية، اللغة المثالية المتعالية، واللغة: مادة ونظام وصياغة، حقيقة ومجاز، إيجاز ورمز، صورة واسطورة، شيوع وغرابة، عمق وتسطح، تقنع وسفور، كلمة وجملة، عبارة واسلوب، جرس وايقاع، والذين يتعاملون من خلالها، ولا يكونون متضلعين منها، متمكنين من السيطرة عليها، مميزين بين لغة الفن ولغة العلم وحديث المجالس، هؤلاء جميعهم ليسوا مبدعين، وان اطبق الناس على التغرير بهم، واذا لم تشدك اللغة في خيالها ومجازها وايجازها وصورها وغرابة مفرداتها وطرافة صياغتها وانزياحها ومراوغتها ومخاتلتها وفضائلها اصبحت القراءة مضيعة للوقت والجهد، فالقارئ الذي ألف عيون الشعر، وشوارد الابداع كقاصد البحر، ومن قصد البحر استقل السواقيا، وعلى مثل هولاء ان يعذروا العازمين الذين لايجدون ما يغري بالقراءة فضلاً عن النقد.
والقارئ المتذوق الواعي لجماليات اللغة، وأركان الفن، حين لا يعيبه التركيب، ولا تتمنع عليه الدلالة، ولا تشده براعة الصياغة، ولا يحس بجرس ولا إيقاع، ولا يصيخ لإيحاء، ولا يجد حصافة ولا رصانة ولا قضية يحس بخيبة أمل، والذين لا يفرقون بين القول المتداول والقول الابداعي، كمن لا يفرقون بين ضجيج المصانع وانغام الموسيقى، ولا بين المشي والرقص، واذ قيل: الشعراء أربعة: منهم من لاتجد بداً من ان تصفعه، فليس هناك مايمنع من ان تضرب المئات من ادعياء السرديات على ادبارهم، لتطردهم من مشاهد الفن.
والذين يكتبون كيفما اتفق، ويدفعون به الى المطابع، ثم ينقمون على النقاد الذين يمرون بهم مر الكرام، يقترفون خطيئتين: خطيئة الغرور، وخطيئة القصور، وإشكالية الابداع السردي انه سهل المرتقى، ومن ثم يتهافت عليه الموهوب والمقتدر والخلي من السمتين، وقد يجد الفارغون من يخدعهم بأنفسهم، وينسيهم ما هم عليه من ضعف وضحالة، وقد يعمد الفارغون من سائر القيم الى المخالفة في اللغة والفن والاخلاق، ليكونوا حديث المشاهد، ومتى سمعوا كلمة الحق، لم يترددوا في إحالتها الى الوصاية والمزايدة والتسلط، معولين على حرية التفكير والتعبير.
ولو ان النقاد احترموا المصداقية، وتوفروا على آلية النقد ومنهجيته، وتمكنوا من ثقافة الناقد، وعرفوا وظيفته، واعتزوا بما هم عليه من معرفة وتذوق، لكانوا أبعد الناس عن المداراة والتغرير.
والكتبة المتزببون في زمن التحصرم، يدَّعون التجريب، والتجريب له ضوابطه وامكانياته ودواعيه، وكيف يتأتى التجريب لكاتب لم يقدم وثيقة التألق عبر عمل متميز، يدل على اقتداره، التجريب محاولة للتجاوز، وليس تحرفاً للانتكاس على الاعقاب، وكيف تؤمل من مخرب يدعي التجريب، وهو يدفع بنص ممتلئ بالاخطاء النحوية والصرفية واللغوية والإملائية والتركيبية مسف في الدلالة دان من العامية، لا ينبض بشيء من سمات الفن، ولا بمؤشرات الجمال، فضلاً عن جهله بلغة الفن، وسمات الأنواع الابداعية.
التجريب لا يتأتى إلا لمن فسقت امكانياتهم على سمات الأنموذج، ذلك أنه رقم قياسي، والمجرب الحق من يقدم على تحطيمه باقتدار وتفوق، بمعنى ان يأتي بنص افضل مما سلف ليكون مثار إعجاب النقاد المتذوقين واكبارهم، نقول هذا القول بحق من يخفقون في البناء اللغوي والشكل الفني، اما من يخفقون في البعد الموضوعي، فحدث ولا حرج، وجنايات بعض الروائيين الاخلاقية والفكرية لا تحتمل، والمشاهد الثقافية تعيش حالة سيئة من هذه الفئات التي ايقظت العداوات والمناكفات، وفرقت بين الأخ وأخيه.
والمتابع لفيوض الإبداعات السردية: محلياً وعربياً، يقف على تجاوزات دلالية، لا قبل للعامة باحتمالها، فضلاً عن الخاصة، ذلك انها تغثي النفوس باسم حرية التعبير، وأدب الاعتراف، وبخاصة في السير الذاتية، ولقد اتيحت لي فرصة التحكيم في بعض الاعمال السردية، وفرص المناقشة لبعض الرسائل العلمية، فكان ان وقفت على تجاوزات لاتحتمل، وقلَّ ان تجد من يفرق بين الحرية المنضبطة، ومهاوي العهر والكفر، واذا وهنت الأعمال بالاخفاقات البنائية والشكلية والدلالية، ثم شايعها من يعملق تقزمها، ضاع الفن، وتلوثت أجواؤه.
وتلك لعمر الله ردة فنية ولا رجلاً رشيداً لها، اننا بحاجة الى من يصدع بالحق، فيقول للمحسن أحسنت، وللمسيء أسأت، ولا كرامة، لقد سيئت وجوه الفنون السردية بتقحمات فجة، تمردت على ضوابط الفن واللغة والأخلاق، ووجد المتقحمون من يحمي ساقتهم، ويرود لهم مهاوي الرذيلة، وحين تناول المنتدون «الرواية بوصفها الأكثر حضوراً»، اخذوها من زوايا متعددة، وقدموا رؤى متباينة، نعرف انها خليط من الجليد والأجود والرديء والأردى، ولكنها لا تصادم ذوقاً، ولا تنسف ثابتاً.
وعلينا في ظل هذه الترديات الفنية واللغوية والدلالية ان نضع ضابطاً، يبقي على الحد الأدنى من سائر القيم، ومهمة «الصفحات الأدبية» و«الأندية الأدبية» و«الأقسام الأدبية» في الجامعات ليست في الترويج للرديء والساقط، وانما مهمتها في تلافي النقص، وتسديد القول، وكشف الزيف، ومناصحة المواطئين لرديء الكلام، وساقط الفن.
وضوابط الفن، وسمات اللغة، وحدود الحرية، والحق، مستفيضة في الكتب والمعاجم والموسوعات، ومن الفوضى الا يحتكم المختلفون الى مرجعية مستقرة في الصدر او مجموعة في القمطر، مما أجمع عليه اهل الفن المؤصلون لمعارفهم، ومن ضاق ذرعاً بالمعيارية والعلمية، فلا أقلَّته ارض، ولا أظلته سماء، ومن تبرم من رد المسائل الى اهلها فهو دعي ضرره أكبر من نفعه، فحسبه أن يلجم فمه، ويرفع قلمه، فالحياة نظام، والنظام حد، والحرية انضباط، والفن موهبة، ومن رغب عن ذلك، فليس جديراً بأن يفسح له في مجالس العلم والأدب.
|