Monday 1st september,2003 11295العدد الأثنين 4 ,رجب 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

الطفولة العراقية الطفولة العراقية
د. حميد عبدالله

مداهمة العقل بكل خزينه، وانقلاب نمط الحياة، وانفلات وقعها يبدو ممكن الاستيعاب للكبار، أما بالنسبة للصغار فإن الأمر عصي على الاحتمال.
يذهب الطفل إلى المدرسة، ويجلس على رحلته، وحين يدخل المعلم ينادي أحد الطلاب على زملائه قيام وعليهم أن يجيبوا كالمعتاد عاش القائد صدام، إلا أن المعلم هذه المرة يضع إصبعه على فمه محذرا وناهيا عن ممارسة هذا الطقس المقدس، وقد يعقب مهاجما الأوضاع السابقة برمتها أو مستخفا بها، وينهض أحد الطلاب مستجيبا ليقول يسقط القائد صدام ودون أن يعي أبعادها، وينكمش البعض خوفا، ويلتفت إليه الآخرون بذهول وعيونهم تتراشق بالتساؤلات الصامتة لتذوب على وجه المعلم غير المكترث، وتبقى أذهان الطلاب تتراشق بسهام الشك واليقين.
وفي غمرة الدهشة والإحساس بالإحباط يفسرون ما يحدث بأنه امتحان مختلف لدرس مخبوء تحت سطح الواقع كمزحة ثقيلة، لكن الامتحان صار محنة من الشك في نفس الطفل بكل ما يقال له ويتساءل: ألم يقولوا جميعهم يوما نعم للقائد وبنسبة مائة بالمائة ورقصوا لها أياما فما بالهم يقولون اليوم لا وبملء الفم؟
لم يزل التغير عصيا على فهم الأطفال ولاسيما بعد أن أمرهم المعلم وعلى وفق التعليمات بتمزيق أية صورة في الكتاب (للقائد صدام) ثم ألغى منهجا مقررا أو فصلا كاملا من العديد من كتبهم، وكل ما يمت بصلة إلى الثورة والحزب القائد على أن ينتظروا مناهج جديدة يقوم بإعدادها متخصصون في واشنطن فيها الكثير مما لا علاقة له بما خزنوه عبر رحلة العمر الدراسي.
ومنذ سن الروضة وحتى المرحلة الإعدادية كان التلميذ يتلقى سيلا من تلك المفاهيم والمعلومات ويدرسها ويسهر الليالي لحفظها فكيف يتمزق ذلك الخزين الذي ملأ الكثير من الخلايا؟ وبأي شيء سيتم ملء فراغاته بعد أن شكَّل نمطا معرفيا وسلوكيا وتربويا يختمه الطالب كل يوم خميس بطقوس رفع العلم واطلاق العيارات النارية من بندقية الكلاشنكوف المحظورة حيازتها حاليا.
سنوات من هذه الممارسات كان الطالب/ الطفل ينسحق تحتها والمطلوب منه أن ينجح ويتفوق ثم فجأة داهمته موجة التغيير العاتية محمولة على دبابة محمية بأشعة الليزر، وطائرة مروحية تكاد تصطدم بسطح منزله كما رآها في الأفلام وألعاب الكومبيوتر، والآن عليه أن يعود إلى مدرسته المنهوبة أو المحترقة لأسباب شتى ويصغي إلى المعلم واقفا وهو يملي عليه التعليمات الجديدة ويمزق أوراقا كثيرة ويرى الصور المقدسة أمامه منكفئة على الأرض.
قد يكون الكبار سببا في قهر أنفسهم تحت ضغط من الضغوط ولكن هل يسهم الطفل بأسباب قهره وإحباطاته فيصحو يوما ليكتشف أنه كان يتنافس مع فريق من القرن المنصرم ويتسلم كأسا مزيفا لا قاعدة له وأن جمهور الملعب كان يشجع الفريق الذي يدفع أكثر، وأن النتيجة محسومة سلفا، وأن سنوات الحرمان كانت بسبب رب البيت، وأن ألعاب الكومبيوتر، والأفكارالمتقدمة الحديثة والمتطورة، وأجهزة التعليم المدهشة، والمعلم العفيف الباذخ الثراء علما ومثابرة ومعيشة، والبسكويت المغطس بالشوكولاتة، والتفاح الفرنسي، والموز الصومالي لم تكن غائبة أو غالية الثمن إنما غيبت بسبب سوء أخلاق الكبار أو خوفهم أو طمعهم أو نرجسيتهم.
الطفل العراقي سينوب عن التاريخ والقاضي وميزان العدالة ليحاسبنا عن سنوات عمره البهية أين سربناها؟ وعن يفاعته وصباه كيف ملأناها وبماذا؟ وحين ينفض رأسه ليتساقط كل ذلك الخزين النافد الصلاحية منذ قرون ويقارنه بما سوف يضخ فبماذا عندئذ نجيب؟ وأي محام سيتولى الدفاع عنا؟
هذا قهر الأطفال من طلبة المدارس فماذا لو التقينا الأطفال (العتاكة) وهو مصطلح باللهجة العامية يطلق على الأطفال الذين يتعاملون ببيع وشراء الأشياء العتيقة ينفرد به المجتمع العراقي ولاسيما البغدادي منه، وبرغم ذلك فإنه لا يوصل المعنى بدقة إلا إذا قلنا إنه يعني أولئك الأطفال الذين يهبون فجرا من المناطق الفقيرة ويتوزعون في أنحاء بغداد باتجاه أكوام الأزبال في المناطق الثرية لينبشوها ويلتقطوا ما يمكن بيعه وبخاصة الأشياء المصنوعة من البلاستك التي تقوم عليها صناعة المواد البلاستيكية المعاد تصنيعها، ويشكل هؤلاء الأطفال أهم مصادر موادها الأولية، ثم يعودون حاملين أكياسهم المملوءة مشيا أو على عربات تجرها الحمير أو دراجات هوائية محورة محليا. إنهم مجاميع من الأطفال يأتون متثائبين ويعودون مزابل متنقلة.
وتضاف إلى أولئك مجاميع أخرى تعمل في تصليح السيارات بأجرة رمزية أو بلا أجرة مقابل تعلم الصنعة، أما الأطفال العاملون قي القطاع الهامشي كما يسميه الأكاديميون فأعدادهم خارجة عن السيطرة ، فهم باعة لأي شيء يتمكنون حمله والتنقل به من مكان لآخر، أو عمال يستخدمهم مقاولو تنظيف الشوارع لتدني أجورهم، وثمة مجموعات ترشحت عن هؤلاء تختبئ في الزوايا مدمنة على استنشاق الغاز المخدر المنبعث من علب الصمغ ويستخدمهم الكبار لأغراض شتى منها مراقبة الأماكن قبل سرقتها، وكل هؤلاء حين يبلغون سن الرشد عليهم أن يراجعوا دوائر التجنيد لينساقوا جنودا لمدة ستة وثلاثين شهرا ليتسرحوا بعدها مثل مقامرين سيئي الحظ على الدوام إن لم تلتقطهم السجون.
حين تتيسر للطفل العراقي فرصة الشكوى في المحاكم المختصة فإنه سيكسبها بإجماع القضاة والمتفرجين ولا سيما الأطفال في دور الرعاية، ومعاهد الصم البكم، ودور العوق البدني، ودور الأيتام، ومعاهد النور لفاقدي البصر، ودور المشردين والمشردات، فهؤلاء يمثلون في الحسابات التربوية والعلمية للألفية الثالثة أسوأ المقهورين إن كان للقهر درجات، وأكثر من وقع التلاعب بحياتهم والتدليس عليهم سواء من المعنيين بإدارة شؤونهم حتى أعلى المستويات، أو من المنظمات العالمية التي اطلعت على أوضاعهم، فالطفل في هذه المعاهد والدور يعيش في فندق (خمس نجوم)، إذ تأتيهم المساعدات والمكرمات والحسنات من كل حدب وصوب، فمساكنهم حديثة ومكيفة، وطعامهم غني بالفيتامينات، والحلويات تأتيهم من مختلف المناشئ والماركات وكلها محشوة بالبندق واللوز، وملابس فاخرة جميلة مزينة ب (ميكي ماوس) وحيوانات (دزني لاند) الأخرى، وحين تسألهم من أين كل هذا يجيبون من بابا صدام وهم يعرفون أنها مرسلة من المنظمات الإنسانية وتدخل تحت سمعهم وبصرهم، وحين تسألهم الآن من أين هذا يقولون من (بابا فلان) ويذكرون اسم المحسن الجديد أو اسم المنظمة أو الهيئة من مختلف الدول العربية والأجنبية.
هذا جانب من دمعة العين إلا أن النحيب الذي يدين العالم هو أن الطفل العراقي سيخرج من الفندق الفخم إلى الشارع مباشرة بعد أن يبلغ سن الثامنة عشرة على وفق قانون تلك المعاهد والدور.. يخرج وهو بلا تربية صحيحة، ولا مهنة، فلا منهج تربويا مكتوبا، ولا مربيات يتبعن الأسس العلمية الحديثة، وإنما المزاج هو الموجه، كذلك لا توجد معاهد تدريبية أو تأهيلية تكسبهم مهنة يتحصنون بها حين يلجون الحياة المتلاطمة بعد سنوات العسل في الفندق الباذخ.
وإذ يحين وقت طردهم من الدار أو المعهد تفضل الفتيات البقاء في الدار بصفة مربية أو عاملة خدمات، فتصبح ربة البيت بين ليلة وضحاها خادمة في البيت نفسه، والأدنى هو أن بعضهن لا يصلحن خادمات أو مربيات وليس لهن سوى دار المشردات، وحين يتعلمن هناك تعدد القنوات يخترن شارعا لا يفضح وجودهن باللافتة المهينة.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved